كنا ما نزال في خضمّ الضجّة التي أثارتها عبارات مهاتير محمد عن اليهود في المؤتمر الإسلامي، عندما توفّي زعيمٌ مسلمٌ شهيرٌ آخر، هو رئيس جمهورية البوسنة والهرسك السابق علي عزت بيغوفيتش• والرجلان لا يكاد يجمعُ بينهما جامعٌ غير الانتماء الإسلامي• فالشخصيتان مختلفتان، والتجربتان مختلفتان، كما أنَّ النتائج مختلفة• لكنّ هناك أمراً جامعاً آخر ينساهُ الكثيرون هو أنّ الرجلين من مؤسّسي الدول، وهذا إنجازٌ لا يستطيع الأكثرون من زعماء الدول الإسلامية المعاصرين ادّعاءه، بل يمكن القول إنّ عدداً من حاضري قمة المؤتمر الإسلامي يصح فيهم قول الشاعر:
ورثنــا المجـــد عـــن آبـــاء صـــدقٍ
أســـــــأنا في جوارهــــــم الصنيـعـــا
إذا المجـــــــد التليـــــــــــد توارثتْـــــــهُ
سُعاة الضعف أوشك أن يضيعا
ما ظهرت المشكلة الإسلامية في يوغوسلافيا إلاّ في الستينيات، وتحت وطأة صراع القوميتين الكبيرتين في الاتحاد اليوغوسلافي: القومية الصربية، والقومية الكرواتية• ولا داعي هنا للتفصيل في صراعات الإثنيات والقوميات والأديان في البلقان، فقد صارت مضرب المثل حتى قيل: البلقنة، بمعنى التشرذم والانقسام• والبوسنيون المسلمون (الذين اتهمهم الصرب والكروات فيما بعد أنهم من أصول تركية) صربٌ في الغالب، أسلم أكثرهم خلال السيطرة العثمانية على المنطقة، والتي استمرت حوالى الثلاثمائة سنة• وقد اشتهروا خلال الحربين الأولى والثانية بالشراسة في مصارعة النمساويين والألمان والطليان، دفاعاً عن استقلال صربيا، في حين تعاون الكروات مع الغـُزاة هرباً من تفوق الصرب، وإرادةً للاستقلال بدولةٍ، مثلهم في ذلك مثل الألبان• ورأى جوزف بروز تيتو (الذي يقال إنه من أصلٍ كرواتي) ضرورة الاستجابة لطموحات البوسنيين (البوشناق في النطق العثماني) وحتى الألبان، فدفع مؤسسات الاتحاد، للاعتراف بمنطقتين للحكم الذاتي ضمن الاتحاد: القومية (الإسلامية) في البوسنة والهرسك، والقومية الألبانية في كوسوفو (1973)• وجاء إنشاء مناطق أُخرى مثل سلوفينيا ومقدونيا، لإحداث نوعٍ من التوازن من خلال التعدد، مراعاةً للحساسيات الإثنية والتاريخية من جهة، واستبعاداً للاستـقطاب الصربي/ الكرواتي في بُنى يوغوسلافيا، ومؤسساتها الاتحادية•
بيد أنّ الأستاذ الجامعي علي عزت بيغوفيتش بدأ احتجاجه منذ أواخر السبعينيات• إذ مع شيخوخة “تيتو”، وضعف سيطرته، تفتتت مؤسسات الاتحاد تدريجياً، وبدأ الصرب والكروات بالاستعداد لإنشاء الدول المستقلة، والتصارع لاستتباع هذه المنطقة أو تلك، وصارت مناطق الاكثرية الإسلامية (وهي قليلة) موضع تجاذُبٍ فظيع، وخاصةٍ البوسنة والهرسك، لأنّ المسلمين يشكلون فيهما حوالى الـ 45% من عدد السكان، ويأتي بعدهم الكروات ثم الصرب• علي عزت بيغوفيتش تحدث في كتابٍ له (من أجل البوسنة) عن الإسلام باعتباره هويةً قوميةً للبوسنيين• وما كان يريد الانفصال، بل كان يدعو لتطوير مؤسسات الاتحاد، أو اتباع نظام الحكم الذاتي حقاً إن لم يمكن التطوير! وثار عليه الجميع، تارةً باسم الوحدة، وطوراً باسم اليسار، لكنْ أيضاً باسم العصبية القومية الصربية والكرواتية• ودخل الرجل السجن، فصار شخصيةً وطنية، دون أن يدفعه الاضطهاد والتعذيب للقول بجمهوريةٍ مستقلةٍ للمسلمين في البوسنة والهرسك• بيد أنّ الاتحاد اليوغوسلافي تحطم أواخر الثمانينيات تحت وطأة صـراع القوميتين الكبيرتين: الصربية والكرواتية• اندفع الألمان (دون أن يعترض الأوروبيون) فساعدوا الكروات على الاستقلال• وما كان الصرب والأوروبيون يخشون البوسنيين ؛ بل الألبان، لذلك سارعوا لإنشاء جمهوريتي سلوفينيا ومقدونيا، مستبقين تضامُنَ الألبان في المناطق الثلاث: كوسوفو (مليونا ألباني)، وسلوفينيا (نصف مليون)، ومقدونيا (ثلاثمائة ألف)• وهكذا ففي مطلع التسعينيات وجد البوسنيون أنفسهم معرَّضين للقضم والتآكل والقتل والتهجير من جانب الصرب والكروات على حدٍ سواء• بدأ بيغوفيتش حملته لجمع الكلمة والتحشيد لحماية النفس والأرض بعد عام •1990 وقد استطاع إلى جانب زملائه وتلامذته في الحزب الديمقراطي، وخلال عامين اثنين أن يطلق حملةً عالميةً لشرح مشكلة البوسنة، وللدعوة لحماية المسلمين من القتل والتهجير• وتردد الأوروبيون طويلاً، وتواطأ بعضهم مع الصرب أو الكروات، رجاءَ أن ينهزم المسلمون البوسنيون ويستسلموا للذل أو التهجير• وعندما تدخلت الولايات المتحدة بعد أربعةٍ وثلاثين شهراً، كان “بيغوفيتش” قد أمّن قوة حمايةٍ تقاتلُ على ثلاث جبهات، ويبلغ عددُها مئةً وعشرين ألفاً تحت السلاح• وبفضل النزوع السلمي، والنضال الدفاعي، أمكن الوصول لاتفاقية “دايتون”، التي قال عنها علي عزت: اتفاقيةٌ سيئة خيرٌ من حرب مئة عام! ومنذ أواسط التسعينيات، وبعد أن اطمأنّ لمصير الكيان، بدأ بيغوفيتش انسحابَهُ التدريجي من الحياة العامة، من الرئاسة أولاً، ثم من مجلس الرئاسة، إلى أن خطفهُ الموت أخيراً• وقد قال مفتي البوسنة في تأبينه: إنها دولةٌ انبثقت من كتاب!