تحملوا مؤتمراً للتكنولوجيا لمدة ثلاثة أيام، وستجدون أن الفجوة بين التفاؤل العلمي وتشاؤمنا السياسي الحالي غير عادية، فهناك أحاديث عن إسكات الجينات، ما يعد بحدوث اختراقات في علاج الخرف، وأحاديث عن بدائل نباتية للحم البقر، ما قد يقلل من تعزيز ظاهرة الاحتباس الحراري، وأحاديث عن أجهزة كمبيوتر تصور بشرتكم لاكتشاف وجود مرض السرطان، وغيرها، لكن الناخبين في جميع أنحاء العالم الغربي لا يحتفلون بهذه الاكتشافات المثيرة، بل هم غاضبون. لقد كنا هنا من قبل، بالطبع. في يوم الكرنفال في عام 1947، عندما جمع راهب الدومينيكان «جيرولامو سافونارولا» مظاهر التقدم في عصر النهضة -كتب وحلي ولوحات ترمز للعولمة– في كومة شاهقة في ساحة بوسط فلورنسا وأضرم فيها النار. لقد كان سافونارولا يندد بالحداثة، ومع ذلك، فكما هو الحال مع دونالد ترامب أو تنظيم «داعش»، فقد استغلها أيضاً، ونشر دعاية ضخمة عبر تكنولوجيا الاتصالات الحديثة للصحافة المطبوعة. بعض النظريات المتعلقة بترامب (ترامبيزم) -أو هوفيرزم في النمسا أو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بري أكزيتيزم)– تؤكد محن الناخبين: ووفقاً للقياس التقليدي، فقد دخلت الطبقة المتوسطة في حالة من الركود، لكن هذه النظرية من ارتفاع الشعبوية ليست مقنعة تماماً. فالمقاييس العادية للدخول تسقط الكم المثير للدهشة من الأشياء التي لا ندفع لها مقابلاً، مثل البحث المجاني في الإنترنت، وخدمات الرسائل، وتطبيقات «السيلفي»، ومقاطع الفيديو على اليوتيوب.. إلخ، والأكثر من ذلك، فإن الشعبوية تصيب البلدان التي يظهر فيها القياس التقليدي تقدماً، فقد شهدت كل من بولندا والمجر ارتفاعاً بنحو ثلاثة أضعاف لنصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي عام 2000، لكن كلتا الدولتين في قبضة رجل قوي شعبوي. وهناك نظرية أكثر إقناعاً للشعبوية، وهي أنها تستطيع أحياناً أن تكون نتاجاً ليس للركود ولكن للتقدم، ومثلما هو الحال مع الهجرة أو العولمة، فإن التغير التكنولوجي السريع إيجابي ومحير على حد سواء، فهو يشوش الحياة بضغوط طفيفة، مثل أجهزة التحكم في التلفزيون المدهشة وكلمات السر المزدوجة، لكن أيضاً بضغوط وجودية، مثل شبح الروبوتات الذكية التي تسرق كل الوظائف، وبالطبع، فإن التذمر من هذه التكاليف قد لا يكون منطقياً، نظراً للفوائد الضخمة للتكنولوجيا، لكن الناس ليسوا منطقيين. بعد أزمة عام 2008، أصبح من الشائع أن نرثي لا عقلانية المتعاملين الماليين، وأن نشير بحكمة إلى التحيزات الإنسانية التي حددها خبراء الاقتصاد السلوكي في سبعينيات القرن الماضي، فماذا تخمنون: إن الناخبين لا يختلفون. وفي الواقع، فالتحيزات التي حددها خبراء الاقتصاد السلوكي تخبركم بالكثير حول ترامب. لماذا يشعر مؤيدوه بهذا القدر من الاستياء من عالم فيه الدخول، التي تقاس بشكل صحيح، قد تمت بصورة محترمة؟ هناك مسألة غريبة تتعلق بموقف الناس من الخسارة. والاقتصاد السلوكي يجد أن الناس يعانون «نفوراً من الخسارة»، فهم يخشون من خسارة 10 دولارات أكثر من احتفالهم بربح نفس المبلغ، وهذا يساعد على تفسير السبب الذي يجعل مؤيدي ترامب يخشون من التهديدات أكثر من ترحيبهم بالفرص، سواء تعلق الأمر بالهجرة أم بالعولمة أم بالتكنولوجيا، وفي نفس الوقت، على الرغم من ذلك، فإن «نظرية الاحتمال» تشير إلى أنه بمجرد أن يتكبد الناس خسائر، فإنهم يقامرون بتهور لتعويض خسارتهم. وعادة ما يتم تقديم هذه الرؤية لتفسير الأسباب التي تجعل المستثمرين يتمسكون بالأسهم التي فقدت قيمتها، أو الأسباب التي تجعل فرق كرة القدم الخاسرة تحاول القيام بتمريرات طويلة، ولن يكون تمريره أطول من التصويت لترامب. بعد الأزمة المالية، استجاب العالم عبر إصلاحات لتفادي حدوث انهيار آخر. والآن، ونظراً للأزمة الشعبوية، فإن العالم بحاجة إلى استجابة بنفس الحجم. والسياسات التي تشجع النمو والكفاءة يجب أن تكون متوازنة مع سياسات تعزز الأمن والإنصاف، وكما تحتفظ البنوك حالياً بمزيد من رأس المال، حتى وإن كان ذلك على حساب العائد، كذلك يجب على المجتمع أن يكون مهيأً لفرض ضرائب تصاعدية بقدر أكبر، وأن يحد من رواتب المسؤولين التنفيذيين الجامحة إلى جانب إصلاح الفجوات في شبكات الأمان الاجتماعي. سيباستيان مالابي: زميل بمجلس العلاقات الخارجية الأميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»