ما زال هدف الجامعات لدينا يتركز على استيعاب أكبر عدد ممكن من الحاصلين على شهادة الثانوية العامة، أي أنها ما زالت جامعات الأعداد الكبيرة. ولما كان التعليم نفسه قضية وطنية، فإن هذه الأعداد الكبيرة أمر لا مفر منه، ولكن يبقى التوجيه الجامعي. ما زلنا نعتقد حتى الآن أن كل الحاصلين على شهادة الثانوية لابد أن يدخلوا الجامعة، ضرورة، فهي الطريق الطبيعي المكمل للشوط الأول. وهذا غير صحيح على الإطلاق، فالجامعة تأهيل للبحث العلمي أكثر منها تأهيلاً للعمل المنتج، وللتخصيص المباشر، ومن ثم فإننا نستطيع التوسع في إنشاء المعاهد المتخصصة التي لا تقل أهمية أو شرفاً عن الجامعة، خاصة أننا ما زلنا في مجتمع يعطي الأولوية للنظر على العمل، ويعتبر من يعمل بفكره، أو على مكتبه أفضل ممن يعمل بيديه في المصنع. والمعاهد الفنية المتخصصة يمكنها استيعاب أكثر من نصف الحاصلين على الثانوية العامة، وخاصة أننا بحاجة إلى المهندسين الصناعيين، والعمال المهرة. وفي البلاد المتقدمة تقوم هذه المعاهد بسد احتياجات المناطق، بل إنها تفوق الجامعات من حيث التركيز على الجانب العملي والفني، وتسمى مدارس عليا للتجارة والصناعة والزراعة والكهرباء والهندسة والميكانيكا والوثائق.. الخ. ولا يعني ذلك أنها أقل شرفاً من الجامعة التي ركزت على الأبحاث النظرية، ولكن يبقى أن مهمة المعاهد العليا هي الاتصال المباشر بالواقع، وسد ما تحتاج إليه من متخصصين وفنيين. أما من تقبلهم الجامعة فلقلة عددهم، يمكنهم التوجه برغباتهم الخاصة نحو الكليات المختلفة، دون تفاصيل بينها من حيث القيمة، فنعطي المجاميع الكبيرة بعينها، والصغيرة لكلية أخرى. وتكون مهمة العمل السياسي هي إشعار الطلبة بالمسؤولية الوطنية، وبالفرق بين التعليم العام والتعليم الجامعي، بل وإعطاؤهم أكبر قدر ممكن من الثقافة العامة، ويمكن تحقيق بعض المرونة بين الكليات والأقسام المختلفة. فيمكن لطالب فلسفة أن يدرس مادة في كلية الطب من التشريح، ويمكن لطالب علم نفس دراسة مادة في كلية الطب عن الجهاز العصبي، وبالتالي تترك للطالب أيضاً داخل الجامعة وداخل القسم أكبر قدر ممكن من حرية الاختيار. كما يجب علينا إعادة التفكير في نظام التعليم المفتوح، فهذا النظام لا يعني حصول بعض الموظفين على شهاداته تؤهلهم إلى درجات أعلى من أجل زيادة مرتباتهم، بل على رغبة حقيقية في التعلم والتثقيف، فالملتحقون بهذا النظام، على رغم جهودهم ومثابرتهم، يتصورون الجامعة على أنها كتب ومقررات وامتحانات، عليهم اجتيازها، فلا هم يأخذون العلم، ولا هم يتطورون فكرياً عما بدأوا منه. وعلينا ألا نضع أي قيود على الطلبة الوافدين، فإن مهمة جامعاتنا في مصر هي تخرج أكبر عدد ممكن من الطلبة العرب خاصة والشرقيين عامة. وعلينا رفع كل القيود المالية والإدارية عنهم، فذلك مكسب عظيم لقضايانا الوطنية. وإن مراكزنا لدراسة مشاكل البلاد النامية، يجب أن تحتوي على أكبر عدد ممكن من الطلبة الوافدين، فمهمتنا هي تربية الكوادر، وإلا فالأعداء سيقومون بهذه المهمة بدلاً منا. وفي الدراسات العليا، يجب تحويل السنة التمهيدية فيها إلى أبحاث بدل المحاضرات، حتى يتعود الطالب على البحث العلمي، ويجب تخطيط الدراسات بحيث تكون الموضوعات وثيقة الصلة بواقعنا الخاص، وأن يكون التخطيط جماعياً، والإشراف جماعياً، حتى لا يتذبذب الطالب بين هذا وذاك، وحتى لا تتغير خططه حسب سفر المشرف عليه. وما زالت باقية لدينا مشكلة المعادلات العلمية وتقييم الشهادات بالخارج، دون مقياس موحد، فتقبل شهادات بعض الجامعات الأميركية، ولا تقبل شهادات بعض الجامعات الأوروبية المناظرة لها، ولاسيما أن الدولة نفسها هي التي تقرر إيفاد الطلبة إلى هذه الجامعات، ثم لا تعترف بشهاداتها! ويمكننا القول أيضاً، إن علينا أن نفصل في جامعاتنا بين الجانب العلمي والجانب الإداري، فيجب خلق إدارة خاصة للامتحانات، تقوم بهذه المهمة حتى لا يضيع ربع العام تقريباً على أعضاء هيئة التدريس في أعمال إدارية محضة، يمكن للإداريين القيام بها، فيكفي الأستاذ إشرافه على أبحاث الطلبة طيلة العام كجزء من تقييم مستواهم العلمي. إن نظم الجامعة لتخفف كثيراً لو أنها خضعت للإرادة السياسية المنفذة للخطة القومية للتعليم، وحينها يكون الدافع القومي هو الموجه لسلوك الجميع. ـ ـ ـ ـــ ــ ـ ـ د. حسن حنفي --------------- أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة