«الإسلام السياسي» والمجتمع.. تضافر أم تناحر؟
جاءتني تساؤلات عدة من باحثين وكتاب على مقالي قبل السابق، والذي كان عنوانه: «العمق الاجتماعي والإسلام السياسي»، وذلك عما إذا كانت الجماعات والتنظيمات التي توظف الإسلام في تحصيل السلطة السياسية والثروة الاقتصادية تسعى، كلاً على حدة، في سبيل بناء عمق اجتماعي لكل منها؟ أم أن هناك تنسيقاً بينها في هذا الصدد؟ وسأحاول في مقالي اليوم أن أجيب على هذين السؤالين.
في البدء، فالعمق الاجتماعي لأي من الجماعات الدينية السياسية لا يقتصر على جهدها منفردة، وإنما بينها علاقات من التقاطع والتعامد والتوازي ما يجعل كلاً منها تخدم الأخرى، سواء كانت مدركة هذا، أو غير مدركة، قاصدة هذا وتتحرك بوعي في سبيل خدمة ما تسميه كل هذه الجماعات «المشروع الإسلامي» أم تقود تفاعلاتها، التي تتراوح بين تحالف وصراع وما بينهما من تنسيق وتوافق وتبادل منافع وتقسيم أدوار، إلى الحفاظ على وجودها، ومساعدتها على التمدد في بنيان المجتمع بمختلف طبقاته وفئاته وشرائحه وطوائفه وتجمعاته وهيئاته.
وهذه العلاقة تتأسس بدرجة أولية على تشابه الأفكار وتقارب الأدوار، فرغم التباين النسبي في التصرفات والدعايات وبعض التصورات التي تطلقها هذه الجماعات في الفضاء العام للمجتمع فإنها جميعاً تنهل من معين واحد، وتؤمن بحتمية تاريخية واحدة، ألا وهي الانتصار في نهاية المطاف وإقامة «الدولة الدينية» المنتظرة! وهذا التطابق في البدايات والمنابع وتصور النهايات والمآل، يجعل آفاق العلاقة بينها مفتوحة طيلة الوقت على احتمالات عدة، وتجعلنا دوماً مدعوين إلى التحسب والحذر حال تقييم هذه العلاقة، فلا نتسرع ونقول إن الصراع بينها طبيعي وسيستمر، إن رأيناها تتنافس بضراوة، أو يحمل بعضها السلاح في وجه بعض. ولا نتعجل الاعتقاد في أن الخلاف بينها لا يعني بالضرورة أن ما تفعله لن يتلاقى، وسيخدم أكثرها قوة وتمكناً في نهاية المطاف.
ولكل هذا لا تصلح دراسة الأعماق الاجتماعية للجماعات والتنظيمات السياسية الإسلامية، دون رؤية تلك الجماعات من شتى جوانبها، للإجابة على السؤال الذي لم يُعتن به قدر الاعتناء بأسئلة أحرى تثار حولها، وهو: كيف تخدم هذه الجماعات بعضها بعضاً، رغم التصنيفات التقليدية لها بين «محافظة» و«راديكالية» و«معتدلة» و«متطرفة» و«عنيفة» و«سلمية»؟
ربما وقع كثيرون في غواية ما تصدره هذه الجماعات عن نفسها، وما ترسمه من ملامح زائفة لها، بغية تسويق تصوراتها ومراميها إلى أعرض قاعدة جماهيرية ممكنة، وخاصة أن كلاً منها تحرص على أن تبدو متباينة عن الأخرى، بل أفضل منها، وأنها وحدها «جامعة مانعة» في تمثيل «المشروع الإسلامي»، وأن غيرها ليس على هذا النحو، أو لا يمثل «صحيح الإسلام» أو «الطريق المستقيم».
ويعتقد أغلب أتباع كل جماعة في صحة هذه المزاعم، لكن هذا لا يمنع من حدوث ثلاثة أشياء تجعل كلاً منها تخدم الباقيات، وهي:
1- يحدث أحياناً تنسيق على مستوى القيادات، رغم التنافس الظاهري بين الجماعات التي يتحكمون في قرارها، ويجري هذا أكثر وقت الأزمات، وحين يرى الجميع أن جماعاتهم مستهدفة ممن يسمونهم أعداءهم، سواء كان العدو بالنسبة لهم هو السلطة الحاكمة أو التيار المدني أو حتى الغرب الذي يزعم أتباع الحركة الإسلامية المسيّسة دوماً أنه يخطط للنيل منها. ويتصرفون في مثل هذه الظروف وفق القاعدة التي يبدونها دوما وهي: «نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه».
2- هناك بعض الأتباع في كل جماعة يميلون إلى التوافق مع الجماعات الأخرى، لاسيما في مراحل ضعفها جميعاً، ولدى كل جماعة فكرة راسخة حول قرب أتباع الجماعات الأخرى منها، مقارنة بالقوى السياسية والاجتماعية الفكرية المدنية، أو الهيئات والمؤسسات والتكوينات التي تنظمها السلطة الحاكمة. وتجمع هؤلاء أماكن ومناسبات وأزمات تقربهم من بعضهم بعضاً. ففي المساجد والجمعيات الخيرية وقاعات الدرس وزنازين السجون تخلق دائماً ظروف قد تفتح بينهم باباً للتعاون والتفاهم والتنسيق، بقدر ما تفتحه أمام التنافس والصراع أحياناً.
3- حتى لو لم يجر تنسيق بين قيادات هذه الجماعات، أو يؤثر اقتناع كل منها بقرب الأخريات إليها على التفاعل الإيجابي بينها، فإن الأفكار التي تبثها جميعاً في المجال العام، والتصرفات التي تبدر عنها في مختلف المواقف والمواضع، تجعل كلاً منها تخدم الباقيات، حتى لو لم يكن هذا معلناً، أو مخططاً له على وجه دقيق.