لا يختلف اثنان على أن الحافز الفردي ذو تأثير بالغ في تحفيز الهمم الاقتصادية، وتشجيع الناس على العمل والإنتاج، ولكن ترك هذه الحوافز تتصارع دون ضابط ولا رابط، أو عدم تبصيرها بما يجب أن يكون عليه السلوك الاقتصادي، يقود إلى نتائج عكسية، من قبيل شيوع الفساد والرشوة وتوحش الاحتكارات، والجنوح إلى المشروعات السطحية، التي قد تقبل على إنتاج سلع ترفيهية محدودة الأهمية، فتستعر شهوة المجتمع إلى الاستهلاك. ولكن المشكلة في أي بلد تنشأ إن كان المسؤولون عن التخطيط الاقتصادي يطبقون نظريات وأفكاراً تتماشى مع اقتصادات قوية، أو بمعنى أكثر دقة، ينفذون خطط الاقتصادات الاستعمارية على الدول المستعمرة أو التابعة. وهذه آفة ليست بالجديدة، إذ إنها تعشش منذ زمن في عقول كثير من الأكاديميين الاقتصاديين في العالم الثالث، ممن يعطون لتاريخ أوروبا وأميركا الاقتصادي أولوية على تاريخنا نحن، ويتحمسون لتدريس نظريات عن «توازن المشروع في ظل المنافسة الحرة أو الاحتكارية» أكثر من تحمسهم لدراسة أفكار حول سبل تنظيم القطاع العام، وانتشاله من ورطته، وكما يقول المفكر الاقتصادي الكبير جلال أمين فإن هؤلاء يتناولون بشغف نظريات الثمن والتوزيع والتوازن الكلي على حالها الذي وضعه مارشال أوكينز، مع أن هذين المفكرين الاقتصاديين كانا سيتوصلان إلى نتائج مغايرة لو وضعا هذه النظريات على أساس دراسة اقتصاد دول العالم الثالث التي ننتمي إليها. ويتم اقتطاع هذه النظريات والأفكار من سياقها لتدرس وتطبق في سياق مغاير، ولكنها لن تفلح أبداً، فلا المشكلات التي تعاني منها حياتنا الاقتصادية هي المشكلات التي تعترض الغربيين، ولا الحلول التي تصلح لهم يمكن أن تنفعنا بصورتها المستوردة، فالخبرة الأوروبية اتكأت أساساً على الثورة الصناعية، التي فتحت الباب واسعاً أمام بناء المصانع وتشييد المدن على حساب الاقتصاد التقليدي وحياة الريف البسيطة، وهذه الطريقة الأوروبية بدت لكثيرين منا هي النموذج الأوحد لتحقيق التنمية، وأن الوصول إلى المجتمع الصناعي المتقدم تقنياً لا يكون إلا بالقضاء على النسق الاجتماعي المرتبط بالزراعة، وينسى هؤلاء أن النمط الأوروبي يحتاج إلى تراكم رأسمالي، وهو ما تحقق من النهب الاستعماري، وتحتاج أيضاً إلى تقدم تقني، وهو ما وفرته الثورات العلمية المتعاقبة، وكلا الشرطين لا يتوفران لدى كثير من الدول العربية من الأساس. ومن المنشأ ينظر الغربيون إلى الاقتصاد بوصفه «مخدوماً» وليس «خادماً»، بمعنى أن كل شيء يهون ويوظف في سبيل تعظيم الربح وتراكم الوفورات المالية، فهذا هو أهم معيار يقاس به نجاح الشركة أو المؤسسة، إن لم يكن المعيار الوحيد لدى كثيرين. ولا يلتفت هؤلاء إلى «روح الشرق» المستمدة من الأديان، والتي تنظر إلى الاقتصاد بوصفه خادماً، لأنها تؤمن بأن الإنسان له وظيفة في الحياة الدنيا أكبر بكثير من مجرد أن يأكل ويشرب ويتكاثر ويترفه، وتؤمن كذلك بالبعد الاجتماعي للمال، ففي الإسلام مثلًا يقوم الاقتصاد على أصل ثابت مفاده أن «المال مال الله ونحن وكلاؤه»، ومن ثم شرعت الزكاة والصدقة، ورأى بعض الفقهاء أن الدولة يمكنها أن تقدم على التأميم إن اختلت الأمور، فامتلكت القلة الضئيلة كل شيء وحرمت الأغلبية العريضة من حياة كريمة تقوم على الكفاية. والنظريات الاقتصادية الغربية تصلح في بلدان حققت حداً معقولًا من الكفاية لمواطنيها، أو تنفع بلاداً تريد أن تمد أياديها الاقتصادية إلى خارج الحدود، باحثة عن أسواق رائجة وأماكن طيعة للاستثمار. أما في البلاد المنهكة اقتصادياً، فإن الأولوية يجب أن تعطى لتوفير حد الكفاية للناس، من غذاء وكساء وإيواء ودواء وترفيه مناسب، وخلق طبقة وسطى تحافظ على القيم وتحفظ التماسك الاجتماعي، وإيجاد رأسمالية وطنية، تنخرط في «تعميق التصنيع» وتحرص على منافسة المنتج الأجنبي في بلادنا فتهزمه، ثم تسعى للمنافسة في الأسواق الخارجية. لكن الحاصل في أغلب بلدان الدول الفقيرة والنامية هو عملية ولادة قيصرية لطبقة مصطنعة من رجال الأعمال الذين يشيدون مشروعات وهمية على أكتاف وأجساد عشرات الملايين من الفقراء والمساكين، ويسعون إلى حيازة احتكارات واسعة بطرق غير مشروعة، ويلهثون وراء مصانع السلع الخفيفة من قبيل المسليّات والحلوى والمرطبات، لأنها تدر عوائد سريعة، فإن وجد هؤلاء أن الاستيراد أجدى في تحصيل مال بلا تعب، فسيغلقون المصانع، ويتحولون إلى تجار، وفي أفضل الظروف إلى وكلاء للشركات الأجنبية الكبرى.