في نهاية الأسبوع الماضي، ومن خلال مؤتمر صحفي عقد في مدينة «سان فرانسيسكو»، أعلن الملياردير الأميركي «مارك زوكيربرج» مؤسس الفيسبوك، وزوجته الصينية الأصل «بريسليا تشان»، عن قرارهما بتخصيص هبة قدرها ثلاثة مليارات دولار (11 مليار درهم) خلال عشر سنوات، لدعم الأبحاث والدراسات الطبية الهادفة للقضاء على الأمراض التي تصيب أفراد الجنس البشري. ويشكل هذا الإعلان آخر حلقات مسلسل أو ظاهرة الاهتمام المتزايد بين عمالقة الإنترنت وصناعة الكمبيوتر، بالقضايا الصحية والطبية، وتخصيصهم لمليارات الدولار لمكافحة العديد من الأمراض، وربما تحقيق حلم القضاء التام على بعض منها. ويعتبر مؤسس شركة مايكروسوفت «بيل جيتس» وزوجته «ميلندا» من أوائل مليارديرات صناعة الكمبيوتر الذين خطوا خطوات واثقة على هذا الطريق، من خلال مؤسستهما الخيرية التي انشآها قبل ستة عشر عاماً، وخصصا لها 28 مليار دولار من مالهما الخاص (103 مليار درهم)، هي جُلّ ثروتهما تقريباً. وتختص هذه المؤسسة، التي تعتبر أكبر مؤسسة خاصة على الإطلاق في العالم، حيث تمتلك رأس مال أو وقفاً خيرياً بقيمة 44 مليار دولار (163 مليار درهم)، لدعم الأبحاث والدراسات الطبية، ورفع مستوى وكفاءة خدمات الرعاية الصحية حول العالم، ومكافحة أمراض بعينها، بالإضافة إلى مكافحة الفقر، وزيادة فرص التعليم، وإتاحة تقنيات ثورة المعلومات لأكبر عدد ممكن من الناس. وحتى يومنا هذا، منحت مؤسسة «بيل ومليندا جيتس» للبرامج الصحية فقط، حوالي 7 مليارات دولار، بما في ذلك 1,3 مليار دولار وجهت لمكافحة طفيلي مرض الملاريا وحده، وهو ما زاد بشكل هائل من حجم الإنفاق العالمي السنوي على مكافحة هذا المرض اللعين. فقبل هذه المنح والهبات، كانت شركات الأدوية والعقاقير الطبية قد فقدت الاهتمام والحافز للاستثمار في الأبحاث والدراسات الرامية لاكتشاف أدوية وعقاقير جديدة لعلاج الملاريا، أو تطعيمات قادرة على الوقاية من الإصابة به، على رغم أن الملاريا تصيب مئات الملايين من البشر، وينتج عنها سنوياً مئات الآلاف من الوفيات، أو أكثر من مليون وربع مليون في بعض التقديرات. ويعود السبب في ذلك إلى حقيقة أن الغالبية العظمى من ضحايا الملاريا هم من أفراد الشعوب الفقيرة والمعدِمة، في الوقت الذي تتكلف فيه الأبحاث الساعية لاكتشاف عقاقير جديدة مبالغ طائلة، وهو ما يعني أن شركات الأدوية لن تستطيع جني عائد مجزٍ على استثماراتها تلك. وعلى منوال «مارك زوكيربرج» مؤسس فيسبوك، و«بيل جيتس» مؤسس مايكروسوفت، أدلت (Alphabet Inc) الشركة الأم لـ«جوجل» -أحد أهم عمالقة عصر المعلومات بقيمة سوقية تزيد حالياً عن 500 مليار دولار- بدلوها هي الأخرى في قطاع الرعاية الصحية، من خلال برنامجها المعروف بـ«العقل العميق» (DeepMind)، الذي تم تفعيله مؤخراً في ثلاثة من المستشفيات البريطانية، ويسعى هذا البرنامج، من خلال الاعتماد على تقنيات الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence) إلى اكتشاف أسباب الإصابة بالعمى وفقدان البصر. ويعتبر هذا البرنامج أحد مشاريع أو مغامرات الشركة الأم مالكة «جوجل» في مجال الرعاية الصحية، بعد برنامجها أو مشروعها الهادف إلى (تغيير كيفية تناول أو مقاربة الشيخوخة) بقيادة إحدى الشركات التابعة لها (Calico)، بالإضافة إلى مشروعها الآخر الهادف إلى تطوير عدسات لاصقة ذكية، يمكنها تنبيه مرضى السكري بشكل دائم لمستوى السكر في دمائهم، وبقيادة شركة أخرى (Verily) تابعة أيضاً للشركة الأم لـ«جوجل». أما «زكيربرج» وزوجته، فستعتمد استراتجيتهما على تغيير واقع فعلي ومؤسف، يتجسد في حقيقة أن حجم ما ينفق على علاج الأمراض المنتشرة بين البشر حالياً، يزيد عن 50 ضعف ما يتم إنفاقه على البحوث والدراسات التي تسعى لاكتشاف علاج شافٍ، أو الوقاية من الإصابة بها من الأساس. فعلى سبيل المثال، تُنفق عشرات المليارات من الدولارات على أدوية مرضى السكري، من أقراص، وكبسولات، وحقن، في الوقت الذي ينفق فيه النزر اليسير فقط على الأبحاث والدراسات الرامية إلى اكتشاف علاج شافٍ -يحقق الشفاء الكامل والتام من المرض- ويزيح عن مريض السكري عبء الحاجة إلى تناول الأنواع المختلفة من أدوية السكري باقي أيام حياته. وربما كان الجزء الأهم والأفضل في هذه الاستراتيجية، هو دعم الدراسات والبحوث الرامية إلى الوقاية من الإصابة من الأمراض من الأساس، سواء كانت هذه الأمراض هي السكري، أو الملاريا، أو ربما حتى أمراض الشيخوخة، أي الأمراض المرتبطة بالتقدم في العمر. وهو ما يعود ليؤكد مراراً وتكراراً، على مدى صدق وواقعية الحكمة التاريخية الناصة على أن درهم الوقاية خير من قطار العلاج. وإن كان في العصر الحديث، يمكن تعديل هذه المقولة لتنص على أن إنفاق بضعة مليارات على الوقاية من الإصابة بالأمراض، أفضل بكثير من إنفاق عشرات ومئات المليارات على علاجها لاحقاً.