التسريبات الآمنة
وجه الرئيس ترامب، الأسبوع الماضي، اللوم للصحافة على ما كشفته حول صلات فريق موظفيه بروسيا، ووصف المسربين بأنهم «حقراء»، وأمر وزارة العدل بفتح تحقيق جنائي، وتعهد بالانتقام قائلاً: «سيلقى القبض عليهم». وأعلن أن التسريبات «غير أميركية مطلقاً». والواقع أن التسريبات «أميركية» تماماً، كالاحتفالات بذكرى الاستقلال. فقد بدأ التقليد العتيق للكشف عن معلومات سرية فيما يتعلق بشؤون الأمن القومي في شتاء عام 1777 حين كشف المسربون الأوائل عن تعذيب قائد في البحرية الأميركية لأسرى حرب بريطانيين. لكن هؤلاء البحارة الذين كشفوا عن تلك الانتهاكات لم يجرمهم القائد الأعلى للقوات المسلحة، بل حصلوا على الدعم الكامل من الكونجرس.
وبعد بضع سنوات، واجه الرئيس جورج واشنطن تسريب المحاضر السرية لمجلس الوزراء وخطابات سرية بين دبلوماسيين ونص معاهدة سرية مع إنجلترا. ورغم أنه كان «غاضباً جداً»، فلم يصف التسريب بأنه غير أميركي ولم يدبر للانتقام. وأثناء رئاسة «واشنطن»، وما تلاها، تم تسريب أسرار الدولة. وربما أهم «مسرب حقير» في ذاك العهد كان وزير الخارجية توماس جيفرسون الذي نشر وحلفاؤه أسرار الأمن القومي في الصحافة. وجاء رد منافسي جيفرسون بإرسال خطابات دبلوماسية سرية إلى الصحف الأخرى. واشتعلت حرب تسريبات هيأت المسرح للإدارات القادمة. وبنهاية رئاسة واشنطن تحول الرئيس نفسه إلى مسرب. وهكذا استمر الأمر في القرنين التاليين. وشكت الإدارات من تسريبات الأمن القومي، لكنها قبلتها عموماً كحقيقة من حقائق الحياة السياسية.
وفي أربعينيات القرن التاسع عشر، نشرت المراسلات الرسمية والأسرار الدبلوماسية للرئيس «جيمس» بولك في الصحافة، فوصفها بأنها «خيانة». لكن بدلاً من مواجهة الاتهامات الجنائية، انتخب المسرب، وهو وزير الخارجية جيمس بوكانان، رئيساً. وبالمثل أراد الرئيس فرانكلين روزفيلت مقاضاة ناشر صحيفة «شيكاجو تريبيون» لكشفها أسراراً عسكرية حساسة أثناء الحرب العالمية الثانية، لكنه تراجع في نهاية المطاف.
إن التسريبات مؤشر صحي للنظام الديمقراطي، كونها عملية فحص مهمة لإساءة استخدام السلطة وصمام أمان لمنع الكوارث، وقد تمثل عملاً رفيعاً من الوطنية.
ونعلم أن تسريبات نائب مدير مكتب التحقيقات الاتحادي (إف. بي. أي.)، مارك فيلت، عن «ووتر جيت»، ساعدت على كشف جرائم البيت الأبيض في عهد نيكسون. وساعد كشف دانيال السبيرج عن أوراق سرية للغاية للبنتاجون في إنهاء حرب فيتنام.
ومهما يكن رأيك في إدوارد سنودن وتشيلسي مانينج، فإن نشرهما مجموعات كبيرة من بيانات الهواتف الأميركية، وحول قتل الجيش للمدنيين، أثار قضايا أخلاقية حيوية تستحق النقاش العام.
ومن المفارقات أن التسريب أصبح منهجياً ومجرماً، بينما أصبح الصحفيون يحصلون بانتظام على معلومات استخباراتية سرية للترويج للأولويات الرسمية. وهذا خلق حكومة تسرب بيد وتعاقب المسربين باليد الأخرى.
ووقائع أعمال التسريب تتفاوت كثيراً، لكن العقوبة تقع بشكل غير متناسب على المسربين من أسفل السفينة وليس من قمتها. فالسيطرة وليس انتهاك القانون هو مصدر القلق الأول فيما يبدو. ومعايير ترامب المزدوجة في هذه القضية أكثر وضوحاً. فمنذ سبعينيات القرن الماضي، أجاد ترامب فن التسريب، إذ كان يتصل شخصياً بصحف الإثارة متنكراً تحت اسم حركي لنشر قصص تخدم أهدافاً لنشاطه الاقتصادي وحياته الخاصة.
لذلك من الأفضل لترامب التعود على تسريبات وسائل الإعلام. فالشعب هو السيد في نظام ديمقراطي. والمسربون لا يعملون لصالحة وإنما لصالح الشعب الأميركي. أما افتراض غير هذا، فهو «غير أميركي» للغاية حقاً.
مارك فيلدستين
مؤرخ وأستاذ للصحافة في جامعة ماريلاند
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»