درس الأسير
في الأسبوع الماضي أنهى الأسرى الفلسطينيون المضربون عن الطعام إضرابهم الذي بدأ في 17 أبريل الماضي ودام واحداً وأربعين يوماً بهدف تحسين ظروف أَسْرهم، وأعلن بيان لمصلحة السجون الإسرائيلية أن اتفاقاً قد تم معهم على زيادة الزيارات المسموح لهم بها إلى زيارتين شهرياً بدلاً من زيارة واحدة، بالإضافة إلى تنازلات أخرى قدمتها السلطات الإسرائيلية لم نعرفها تحديداً، ولكن بيان المصلحة أكدها بمفهوم المخالفة حين ذكر أنها رفضت «معظم» مطالب الأسرى، وهذا يعني أنها قبلت «البعض» على الأقل. وأود أن أتوقف عند مغزى الإضراب ونتائجه في هذا التوقيت بالذات كي نخلص إلى دروس تفيدنا في تلمس السبل الكفيلة بالسعي الناجح لاستعادة الحقوق الفلسطينية. فقد تم الإضراب بعد مرور نصف قرن من احتلال غزة والضفة في عدوان 1967 وفي سياق الحديث عن تسوية قادمة توصف كثيراً بصفقة القرن. فأما عن عدوان 1967، فإن مرور نصف قرن على وقوعه دون أن تخمد إرادة المقاومة الفلسطينية أمر يجب أن نتوقف عنده ونتخذه سنداً لتفاؤل محسوب بالمستقبل. ولا ننسى في هذا السياق أن المشروع الصهيوني نفسه قد تجاوز القرن عمراً باعتبار أن الرصاصة الأولى في المشروع قد أُطلقت في مؤتمر «بازل» بسويسرا في 1997 دون أن يستطيع رعاة المشروع الادعاء بأن الأمر قد استتب لهم بالتهام فلسطين وتشريد شعبها، فما زال الشعب الفلسطيني صامداً، وإن خفتت مقاومته للأسف بحكم مصالح ذاتية ضيقة وحسابات استراتيجية خاطئة ولكن روح المقاومة ما زالت قائمة لدى الشعب الفلسطيني، بما في ذلك أجياله الجديدة التي قدمت في العقود الأخيرة أشكالاً مبهرة للنضال من أجل استعادة الحقوق، وطالما لم تخفت هذه الروح فإن الأمل يبقى في إنجاز الأهداف وإن طال الزمن.
وأما عن «صفقة القرن»، فإننا ينبغي أن نلجأ بشأنها إلى الخبرة التاريخية لمحاولات التسوية الماضية التي امتدت حتى الآن لنصف قرن منذ قبلت مصر قرار مجلس الأمن الشهير 242 في نوفمبر 1967، وطيلة نصف القرن هذا ثمة درسان أساسيان يمكن استخلاصهما من مسيرة التسوية السياسية للصراع العربي- الإسرائيلي، أولهما أن إسرائيل تمتلك رؤية واضحة للتسوية من شأنها أن تعصف بأدنى الحقوق الفلسطينية، بل إن هذه الرؤية تزداد تشدداً عبر الزمن بفعل الوضع الفلسطيني الراهن الذي يعاني انقساماً مؤسفاً، والأوضاع العربية التي تمخضت عن تهديدات جديدة دفعت بالقضية الفلسطينية إلى الخلف بغض النظر عن بقائها في الصدارة لفظياً الأمر الذي أتاح لليمين الإسرائيلي المتشدد أن يمعن في استهانته بالحقوق الفلسطينية والعربية. والدرس الثاني يتمثل في أنه في ضوء المعطيات السابقة، فإنه لم يحدث على مدار الخمسين سنة الماضية أن قدمت إسرائيل للعرب والفلسطينيين تنازلاً واحداً إلا بعد أن وُظفت القوة ضدها بشتى أشكالها. وفي هذا السياق انسحبت إسرائيل من سيناء بعد حرب 1973، ومن لبنان مرتين أولاهما بعد غزوه في 1982 والثانية من الشريط الحدودي الجنوبي في 2000، ووقعت اتفاقية أوسلو التي اعترفت فيها بمنظمة التحرير الفلسطينية في 1993 بعد انتفاضة الحجارة التي بدأت في أواخر 1987، وجلت عن قطاع غزة في 2005 بعد انتفاضة الأقصى التي تفجرت في أواخر سبتمبر 2000، فما الذي يعنيه هذا بالنسبة لصفقة القرن وما دلالة إضراب الأسرى في هذا السياق؟
المعنى شديد الوضوح، وهو أن صفقة القرن هذه بافتراض حسن نوايا الرئيس ترامب وقدراته ستواجه بالتأكيد بممانعة إسرائيلية هائلة إن تجرأ ترامب على أن يُضمّنها أي عنصر يشكل مكسباً حقيقياً للفلسطينيين، ولن يكون قادراً على أن يتصدى لهذه الممانعة بالنظر إلى نفوذ اللوبي الصهيوني الأميركي، وهنا يأتي «درس الأسير» وهو أنه لا شيء يقف أمام الإرادة الصلبة المُجمِعَة على تحقيق هدف، وقد كان هدف الأسرى متناسباً مع ظروفهم، ونجحوا، فما بالنا لو أجمع شعب بأسره أو أمة بأكملها على أهداف مشروعة؟ ولا تهم حسابات القوة هنا، خشنة كانت أو ناعمة، فقد حرر غاندي الهند دون أن يلقي حجراً واحداً في وجه المستعمر.