العلوم بين الثابت والمتغير
من المسلّم به أنّه لا يمكن الحديث عن وجود شيء ثابت في العلوم على الإطلاق. وهذا ما تقوم عليه العديد من التوجهات الفكرية المعاصرة ونظريات التطوّر والتقدّم.. بخلاف الدين ففيه معتقدات وتشريعات نصّية غير قابلة للتغيير.
وإذن فالعلوم أياً كانت يمكن أن تفنّد. فالعلم هو الحقيقة الفعلية للظاهرة التي تنحو نحو التأكيد، ولكن مع ذلك لا يمكن لنتيجة علمية أن يدعي صاحبها أنها الحقيقة المطلقة، أو أن تحتكر تلك الحقيقة. والحقيقة المطلقة هي لله سبحانه وتعالى وحده العليم الخبير، القادر المقتدر، أما العلم الإنساني أياً كان فهو لصيق بالإنسان وبطبيعته البشرية، أي أنه يبقى جزئياً ونسبياً وبالإمكان مساءلة تلك النتائج واختبارها بل وتفنيدها والإتيان بنتائج علمية أكثر منها واقعية ومصداقية في ميراث العلم، ولذلك حق للعلم أن يكون علماً منشئاً، بمعنى أن الهدف الأول والأخير لأي علم هو تنمية المجتمع والسعي الدؤوب لتطويره وتنميته. فكل العلوم التي ندرّسها لطلبتنا في الجامعات، حتى تلك اللصيقة بالعلوم الإنسانية والاجتماعية، إنما يكتب فيها وعنها وتدرس ليس لملء الرفوف وإعداد البرامج الدراسية فقط، بل يجب أن تساهم مجتمعة في تطوير مؤسسات الدول وتنمية الأوطان وخدمة الشعوب.
نجد إذن مبدأ التطوّر الذي يتحكّم في ظواهر الكون... وبفضل هذا المبدأ وصل الإنسان إلى ما هو عليه اليوم من تقدّم. بل أصبح التطوّر يفسّر كلّ ظواهر الحياة البيولوجية بما فيها حياة الإنسان. فالتطوّر أحد مبادئ الثقافة الحقيقية، التي تؤمن بثبات الجواهر والقيم، ولعلّ ذلك أن يكون سبباً في الجمود الذي عرفه الفكر الإسلاميّ والوطنيّ، حينما اكتفى بالتقليد، واجترار التراث، بل وفي إغلاق باب الاجتهاد، والتنكّر لمتغيّرات المجتمع. فجمد الفقه الإسلاميّ منذ القرن الرابع الهجريّ. وبرغم وجود دعوات للاجتهاد وتطوير التشريع فإنّ هذه الدعوات لم تجد الأذن الصاغية. ولكن عندما انخرطنا في التاريخ المعاصر، وهو تاريخ متغيّر، ومتطوّر باستمرار، كما يشير إلى ذلك العلامة محمد الكتاني، لم يكن أمام ثقافتنا بدٌّ من الانفتاح على مفاهيم التطوّر، الذي أصبح يَطال كلّ شيء في حياتنا، ولم يكن ثمة بدٌّ من الإيمان بأنّ التطوّر سُنّة الحياة. ولكنّ البعض منّا لا يزال يدير ظهره لهذه الحقيقة، ويصرّ على أنّ اتّباع بعض الأولين، واسترجاع تاريخهم ومفاهيمهم في الدين هو السبيل الوحيد لفهم الإسلام وتطبيقه.
وهناك إشكال آخر نجده محسوساً في كل فصول تاريخنا العلمي والمعرفي، وهو المتعلق بقضية الثابت والمتحول كما أشرت إلى ذلك في بداية المقالة، فحين لم نستثمر الجهد المطلوب واللازم في هذه القضية، وتركناها منتثرة في كتب النابغين من علماء الأمة دون جمع، وحين لم تُتَلَقّ الإشارات الكثيرة الموجودة في القرآن والسنة إلى هذه القضية فبقيت غير بينة المعالم، حصلت مشاكل كثيرة.. فهذه ?العوائق، ?كما ?أبرزتها ?مؤخراً ?في ?بعض ?الكتابات، ?حين ?استحكمت ?صيّرت ?العلومَ ?الإسلامية ?كما ?استقرت ?بعدُ، ?في ?غير ?قليل ?من ?مناحيها ?وأبوابها ?تضيق ?مناهجها ?دون ?الاجتهاد ?والإبداع.
ثم إن العلوم الإسلامية كما يكتب العلامة أحمد العبادي في فترة تأسيسها كانت عبارة عن حوار مع الوحي (النص المؤَسِّس)? ?للاتصال ?الوثيق ?والمبدئي ?معه، ?وهذا ?الحوار ?كان ?يُعطي ?بالفعل ?القابلية ?لاكتشاف ?مجموعة ?من ?الآفاق، ?ويكون ?ذلك ?استناداً ?على ?استثمار ?المعطيات ?الموجودة، ?واستناداً ?على ?المقاربة ?الآياتية ?للوحي ?وللكون، ?استضاءة ?بالإشارات ?النبوية... ?ممّا ?جعل ?هذا ?الحوار ?في ?الفترة ?الأولى ?يُولِّد ?مجموعة ?من ?المعارف، ?ولكن ?حين ?كَفَّ ?الحوار، ?بقينا ?منحسرين ?فيما ?أنجز ?خلال ?تلك ?الفترات ?الوضيئة ?الأولى، ?دون ?البناء ?على ?مكتسباتها، ?وإنه ?ليتعين ?على ?المسلمين ?اليوم ?استئناف ?هذا ?الحوار.
ففي الجانب الكوني، لو أن الحوارَ مع الكون كَفَّ لما استطعت أن ترى الآن السبرنتيقا (علم القيادة والتحكم ودراسة آليات التواصل)، ولا كل هذه المعارف الطبية التي تمكِّن من الشفاء من مجموعة من الأدواء. ?ولو ?كَفَّ ?الحوارُ ?في ?الجانب ?الفيزيائي ?مع ?الكون ?لما ?استطاع ?الإنسان ?أن ?يطيرَ ?ولا ?أن ?يستكشف ?الفضاء... ?إننا ?بحاجة ?إلى ?إحداث ?مناهج ?جديدة ?لتحقيق ?ثقافة ?النحل ?في ?الإنتاج ?والإبداع، ?وهذه ?المناهج ?هي ?التي ?ستمكننا ?من ?التدبر ?والفهم ?الحقيقي ?للثابت ?والمتغير، ?وستحل ?بذلك ?كل ?المشاكل ?المستعصية، ?وستفتح ?قنوات ?لا ?تحصى ?من ?الاجتهادات، ?وستخرج ?إلى ?الوجود ?أجيال ?من ?الناس ?المنفتحين، ?في ?تواصل ?دائم ?مع ?العقل ?والاجتهاد، ?لا ?مع الاجترار ?والتقليد.