الانتخابات البريطانية و«الخروج الناعم» من أوروبا
أقلّ من عام بعد استفتاء «بريكسيت» البريطاني، عاد الناخبون إلى صناديق الاقتراع ليُبدوا رأياً مخالفاً بإسقاط الغالبية المريحة التي كان حزب «المحافظين» يتمتّع بها، واعتمدت رئيسة الوزراء عليها لتتبنّى خروجاً حاسماً من الاتحاد الأوروبي. اتجه المستاؤون من هذا الخيار القاسي، بكل أبعاده، وفي طليعتهم فئة الشباب، إلى حزب العمال. فالانعكاسات المالية بدأت تؤثر في معيشتهم، بسبب سياسة التقشّف التي اتبعتها حكومة تيريزا ماي. والصحف التي وضعت قطاعات عدّة تحت المجهر تشير بشكل يومي إلى «نتائج كارثية» لخفض الميزانيات. وظهر بوضوح أن التعليم بمستوياته كافةً استشعر مفاعيل التقشّف الذي لا يزال في بداياته، ثم بدأت النقمة تتصاعد جرّاء الهبوط المتواصل في الخدمات الصحّية، ولم يؤخذ الاستياء بالجديّة التي يستحقها إلا عندما تبيّن أن النقص في الموارد لدى الشرطة حال دون تفاعلها بالمستوى المطلوب مع أحداث إرهابية، كتلك التي وقعت في مانشستر.
كان واضحاً أن شعبية الحكومة وحزبها تمرّ بمرحلة صعبة، حتى قبل أن تباشر التفاوض على ترتيبات الطلاق مع الاتحاد الأوروبي. بدلاً من أن تنظر «تيريزا ماي» في حلول أو مسكّنات لتمرير الصعوبات، إذا بها تفاجئ الجميع بمن فيهم وزراء في حكومتها بالدعوة إلى انتخابات مبكّرة، وغايتها الحصول على غالبية برلمانية وحكومة قويّتين ومستقرّتين. بمعنى آخر كانت تبحث عن تكريس لزعامتها عبر الانتخابات، لكن الأمر لا يقتصر على طموح شخصي، بل ارتبط أيضاً بسيناريو المفاوضات مع أوروبا. فهذه ستدخل عمق الملفات أواخر السنة الحالية لتستمر سنتين، أي أنها ستبلغ نهاياتها قبل شهور قليلة من الانتخابات في 2020، وهي فترة غير كافية لاحتواء التداعيات المباشرة لهذا الاستحقاق.
افترضت ماي أن الفوز في الانتخابات المبكرة يجعلها بمأمنٍ حتى سنة 2022، غير أن الاقتراع شقّ مآلاً آخر لها، إذ اضطرّت أولاً لتنازلات داخل حزبها لئلا يصرّ أقطابه على رحيلها، والواقع أنهم منحوها فترة سماح لأنهم يعتبرون أن «بريكسيت» محرقة لأي رئيس وزراء، كما أن الظروف لم تنضج لتغيير زعامة الحزب، لذلك ارتأوا التأجيل ليراقبوا سير المفاوضات وانعكاساتها الأولية. كما أن «ماي» اضطرّت أيضاً لاستقطاب حزب أيرلندي هو «الوحدوي الديمقراطي» والتحالف معه، فالمقاعد العشرة التي فاز بها تكفي لاستكمال المحافظين الغالبية المطلوبة لحكومتهم أمام مجلس العموم. لكنه حزب متعب، سواء بتعصبه البروتستانتي أو بالتوجّهات المتطرفة التي ورثها من حقبته الميليشياوية أيام الصراع مع كاثوليك «شين فين» في سبعينيات القرن الماضي، بل يُنظر إليه كمعوّق رئيسي لتطبيق اتفاق سلام في أيرلندا الشمالية على أساس مشاركة تحاصصية في الحكم.
الواقع أن توجّه الناخبين إلى حزب «العمال» لا يعني امتلاكه عصا سحرية، بل إن تحسّن وضعه في البرلمان يعزى بشكل أساسي للحاجة القصوى إلى حزب معارض متعافٍ وقادر على مراقبة الحكومة في المرحلة الصعبة المقبلة. وقد تبنّى «العمال» برنامجاً يَعِد بـ «خروج ناعم» من الاتحاد الأوروبي، فهو لا يعادي العاملين الأوروبيين في بريطانيا ويرفض تضخيم مسألة المهاجرين واللاجئين. ورغم أن زعيمه جيريمي كوربن اعتبر فاشلاً ومنتهياً عشية الانتخابات، فإنه خاض حملة غلّب فيها الأبعاد الإنسانية والمطالب الاجتماعية فبدأ إصلاحياً إلى حدٍّ كبير، حتى أن المرشح «الديمقراطي» للرئاسة الأميركية «بيرني ساندرز» الذي كان لافتاً أيضاً بحملته الانتخابية كتب في «نيويورك تايمز» داعياً إلى التعلّم من دروس حملة «العمال». لذلك يتوقّع أن يكون «كوربن» معارضاً بالغ الإزعاج لتيريزا ماي.
في أي حال أثارت بريطانيا خلال عام تساؤلات كثيرة عن وجود اختلالات في أداء نظامها العريق والمنضبط. فمنذ استفتاء «بريكسيت» لم تعد بريطانيا تلك التي يعرفها كثيرون حول العالم، بدقة سياساتها وحساب خطواتها. انتصر مؤيدو الخروج في الاتحاد الأوروبي بفارق اثنين في المئة، كما هو معروف، وفور ظهور النتيجة حصل الزلزال المالي المتوقع بل المعلن مسبقاً، فانقلب المزاج العام كما لو أن البلد ارتكب لتوّه هفوة. بعدئذٍ قيل إن رئيس الوزراء السابق أخطأ بالدعوة إلى الاستفتاء، بل طالب كثيرون بدورة إعادة للاستفتاء، ثم خيضت معارك سياسية طويلة قادت إلى المحاكم للحصول عل حق البرلمان في النظر في ترتيبات الـ «بريكسيت» والاتفاقات المرتقبة منه. وكان الدرس الأول الذي استخلصته «ماي» من انتخاباتها المبكرة تكريس الميل إلى خروج ناعم أو جزئي من أوروبا، أي العودة إلى «الوضع الخاص» وفقاً للنموذج النروجي، وهو قريب مما كان عُرض على بريطانيا، لكن مؤيدي الخروج من أوروبا رفضوه ثم ندموا.
عبدالوهاب بدرخان*
*محلل سياسي - لندن