ها قد ودعنا رمضان بسرعة.. إنها مكنونات لا يدرك أسرارها إلا من تأمل في أول الشهر قوله سبحانه وتعالى «أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ». فما أجملها من أيام رغم سرعتها، تُقرب الناس فيها للخالق سبحانه بشتى أنواع القربات، فقد كان صيام النهار شعارها وقيام الليل زادها، والتغني بالقرآن الكريم والتفكر في مراميه نبراسها. ورغم تأثرنا بفارق هذا الشهر، لن نخفي فرحتنا بالعيد، فلكل مجتهد نصيب، العيد هو تتويج لأجر الطاعات والقُربات «قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَ?لِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ». إنها فرحة الدنيا فما بالكم بفرحة الآخرة وصدق الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام عندما قال: «للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه». وَمِمَّا يجمع الناس عليه خلال رمضان أنهم أكثر سعادة، كيف لا وهم في صلة مستمرة بخالقهم سبحانه، الذي غمر أرواحهم بنفحات إيمانية قادتهم إلى السكينة والطمأنينة، من تلذذ بتلك النفحات، تمنى أن يكون العام كله رمضان، فهل بالإمكان اقتباس ممارسات من هذا الشهر الكريم تكون نبراساً لنا بقية السنة كي تتحول السعادة إلى عادة نتفيأ ظلالها وننعم بأنسها. البشرية اليوم في تسابق نحو السعادة، ومحاولة فهم كنهها، وبعيداً عن الجدل المرتبط بها، أقول إن السعادة قرار وسلوك، فهي نمط تفكير يجعلك تجد أن وراء حلكة الليل السوداء، فجر يشرق بالسراء، وإن مع العسر يسراً، وإن ما أصابك لم يكن ليخطئك. ومع هذا الاعتقاد هناك ممارسات لو التزم بها الإنسان كان أقرب للسعادة منه للعناء.. رمضان مدرسة ملهمة نتعلم منها أسرار السعادة الخالدة، فمن شاء منا العيش في طمأنينة، عليه مد أفق روحه في معارج السالكين إلى رب العالمين.. ولعل تلك الأسرار تتلخص في ممارسات أهمها: صلة الروح بالخالق سبحانه، فكما أن للأجساد رياضة تنمي عضلاتها وتعيد ما فقد من طاقاتها وحيويتها، كذلك الروح بحاجة إلى صلة مستمرة بمصدر سعادتها إنه خالقها سبحانه. ومن أهم رياضات الروح الصلاة، فهي صلة بين العبد وربه.. لا ينبغي أن تنقطع تلك الصِّلة إن أراد الإنسان استمرار السعادة في حياته. المصدر الثاني للسعادة التواصل مع من نحب، ففي رمضان كانت تجتمع الأسر على الأقل مرة واحدة وقت الإفطار.. نريد أن تستمر هذه الممارسة الإنسانية، ولا نتعذر بانشغالات الحياة عن أجمل فكرة تعيدنا إلى إنسانيتنا التي أفتقدها البعض عندما فضّل الحياة الافتراضية الإلكترونية على حياته الاجتماعية. إنها الأسرة المصدر الأول للحياة الاجتماعية. إنهم الأصدقاء الذين تسعد أرواحنا كلما التقينا بهم، فهل من سبيل لإعادة برمجة حياتنا اليومية والأسبوعية كي نحرص على اللقاء بأفراد أسرتنا وأرحامنا وأصحابنا بصورة منتظمة غير منقطعة. المصدر الثالث للسعادة حسب ممارساتنا في رمضان يتلخص في العطاء، فالناس أكثر كرماً في رمضان وهذا أمر مشروع مشهود. إن فلسفة العطاء تتلخص في المشاركة والبذل ومكافحة الشح الذي تملك نفوس بعض البشر، فَقَسَت نتيجة ذلك قلوبهم، وأصبحت حالات الفقر والعوز من حولهم لا تؤثر فيهم، بيد أن رمضان علّمنا أن العطاء مغنم وليس مغرماً، وأنك عندما تعطي تنال سعادة لا يمكن أن تقتنيها بمال ادخرته وبخلت به على نفسك قبل غيرك. وأخيراً إن رمضان علمك أنك صاحب إرادة قوية تمكنك من الامتناع عن بعض المباحات كالأكل والشرب نهار رمضان، فهل نستطيع تطوير هذه الإرادة كي تمكننا من الابتعاد عن المحرمات التي ابتلينا بها؟ فمن ترك أمراً لله عوضه سعادة في حياته. وأخيراً.. كل عام وأنتم بخير، وتقبل الله طاعاتكم، ومد في أعماركم سنين عديدة وأزمنة مديدة في حياة سعيدة. *أكاديمي إماراتي