أعلنت الخارجية الأميركية يوم الجمعة الماضي أن الولايات المتحدة ستتوقف عن تمويل وكالة الأمم المتحدة لغوث اللاجئين وتشغيلهم (الأونروا)، وكانت إدارة ترامب قد سبق لها أن خفضت مساهمتها في ميزانية الوكالة في مطلع هذا العام بحجب ثلاثمائة مليون دولار منها وإبقاء خمسة وستين مليون دولار، وها هي تعود فتحجب هذا المبلغ المتبقي، وقد عرض القرار الأول الوكالة لأزمة مالية خانقة اضطُرت معها للاستغناء عن مئات من موظفيها ناهيك بالتوقف عن تقديم بعض الخدمات، وقد نشطت بعد ذلك القرار لمحاولة جمع تبرعات إضافية لتجاوز الأزمة ونجحت في ذلك غير أن العجز بقي قائماً بحوالي مائتي مليون دولار ليفاقم القرار الأخير الأزمة إلى حد الاختناق خاصة وأن الولايات المتحدة هي المساهم الأكبر في ميزانية الوكالة، وكانت إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي جاهرت بسعادتها لصدور القرار مدعية أن الوكالة هي إحدى المشاكل الرئيسة التي تطيل أمد الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي ولذك فإنه سيكون من الحكمة وفقاً لبيان صادر عن ديوان رئيس الوزراء تحويل الأموال إلى مصادر أخرى تستخدمها لصالح الشعب وليس لإطالة أمد الصراع!
وبطبيعة الحال فإنه من حق الإدارة الأميركية أن تنفق أموالها كما تشاء غير أنه من حقنا أيضاً أن نناقش سلامة المبررات التي أعلنتها هذه الإدارة للقرار ومدى رشادته، وقد استند بيان الخارجية الأميركية في هذا الصدد إلى مبررين أساسيين أولهما أن الحصة الأميركية في ميزانية «الأونروا» غير متناسبة مع حصص الآخرين، وهو قول مردود لأن هذه الحصة لم تُفرض عليها وقد بقيت لعشرات السنين، كما أن تصحيح هذا الوضع بفرض أنه خطأ لا يتم بإلغاء المساهمة أصلاًً، أما المبرر الثاني فقد وصل إلى حد اتهام «الأونروا» بأن نموذجها التجاري جعلها تمتلك «مجتمعاً آخذاً في التوسع، وبشكل متسارع ولا نهاية له من المستفيدين المستحقين، وهي عملية معيبة لا يمكن إصلاحها»، ولا أحد يدري تحديداً المقصود بهذه الكلمات فهل ثمة اعتراض على أوجه الإنفاق في الوكالة؟ علماً بأن هذا الإنفاق يعكس بدقة التسهيلات التي يتعين عليها توفيرها للاجئين في مجال الخدمات الأساسية من غذاء وصحة وتعليم أم أن ثمة تلميحاً بالفساد في الوكالة؟ وسوف نفترض جدلاً أن هذا صحيح فهل يكون الحل بالنأي بالنفس أم بمحاولة التصحيح؟ وهي محاولة لابد وأن تؤتي ثمارها لأنها تأتي من أقوى دولة في العالم، ومن ناحية أخرى منذ متى تؤدي اتهامات الفساد في الأمم المتحدة إلى وقف أنشطة مهمة وحيوية كتلك التي تقوم بها «الأونروا»، فهل أدت اتهامات الفساد في صندوق عائدات نفط العراق بعد غزوه إلى إلغائه؟ وهل أدت وقائع الفساد في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة إلى التوقف عنها؟ حقيقة الأمر أن ثمة رغبة في خنق الفلسطينيين كي يقبلوا بصفقة القرن وهو منطق يقوم على حسابات خاطئة أولاً لأن قضايا الوطن لا تُشترى بالمال، وثانياً لأن ما سيحدث هو العكس، ولنتصور ما الذي يمكن أن يفعله خمسة ملايين لاجئ يتم حرمانهم من مساعدات الغذاء وخدمات الصحة والتعليم والحق في العمل؟ وليس ثمة شك في أن هذا يمثل أقصر الطرق لمزيد من الاضطراب الإقليمي وتشجيع العنف الذي تتعامى إسرائيل عن الاتهام الموجه للأونروا أصلاً بأنها تميع قضية اللاجئين بما تقدمه لهم من «مسكنات» تلهيهم عن النضال الحقيقي لنيل حقوقهم. ويلاحظ أن كافة التحليلات العاقلة للموقف قد نحت هذا النحو كما في موقف وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية الذي وصف القرار بأنه مؤسف ويعقد مشكلة اللاجئين الشائكة ببعديها السياسي والإنساني مؤكداً استمرار التزام الإمارات بدعم «الأونروا»، كذلك حذر وزير الخارجية الأردني من أن يتسبب القرار في اضطراب إقليمي، بل إن وزير الخارجية الألماني قد صرح بأن القرار يمكن أن يطلق ردود فعل لا ضابط لها.
يمثل هذا القرار اختباراً جديداً لمحاولات الولايات المتحدة توجيه الشؤون العالمية بإرادتها المنفردة، ويقيني بعدم نجاحها فيه، وقد تمكنت «الأونروا» من حشد موارد إضافية، وسوف يعقد مؤتمر لهذا الغرض نهاية الشهر بمبادرة أردنية وتعاون أوروبي، كما أن الحكومة الألمانية وعدت بزيادة كبيرة في مساعداتها للوكالة وكلها مؤشرات على تجاوز «الأونروا» أزمتها بإذن الله.