بقدر ما تكون الثقافة قوية وعميقة وحيوية مؤهلة للانفتاح على الآخر، وتمتلك القدرة على التأثير في ثقافة هذا الآخر والتأثّر بها، فإن هذه الثقافة، في بعض الأحيان، وعلى ما هي عليه من حالة جيدة وقوية، قد تكون عرضةً للتفتت أو التكسّر، كما نظَّر لذلك كثيرٌ من المهتمين الأنثروبولوجيين، بل ذهب بعضهم إلى أن الثقافة قد تكون عرضة للموت، مثلها في ذلك مثل أي كائن حي. ومن بين العوامل المهددة لأية ثقافة في الأرض، انفصالها عن البيئة التي نمت وترعرعت فيها، بما في ذلك انفصالها عن الإنسان بوصفه مكوناً من مكونات تلك البيئة. وهذه حقيقة أضحت مسلمة لا نقاش فيها، بعدما جرى اختبارها عملياً على الأرض، والتاريخ البشري مليء بالأمثلة الدالة على ذلك، كما يقول لنا (جوناثان لير) في كتابه (موت الثقافة)، أو بحسب بعض التراجم (شعب ماتت ثقافته).
يتحدث الكتاب عن قبيلة من قبائل الهنود الحمر اسمها (قبيلة الغراب) وكيف أنها استسلمت لليأس، وفقدت الرغبة في الحياة، فهذه القبيلة كانت قيم الشجاعة لديها ركناً أساسياً في ثقافة الصيد والقنص والحرب، وكانت تشكل حياة الناس، ولغتهم وعاداتهم وتقاليدهم، حتى جاء من يحرم هذه القبيلة مهنة الصيد والقنص وتربيتها الحربية، ويوجهها لممارسة مهن وحرف أخرى، لا تدخل قيم الشجاعة في نسيجها، ولا تعرف الذود عن حياض القبيلة ضد العدو الخارجي الذي يتطلب الدفاع والشجاعة والمقاومة الشديدة إذا ما اعتدى.
وكان الرجل الأبيض في القرن السابع عشر وراء إرهاصات موت ثقافة القبيلة تلك، بعدما انزوت على نفسها، وفرغت (سوالف) شعبها وحكاياتهم من التقاليد والعادات، ومن تراث الشجاعة والصيد والقنص، حتى قرر شيخ القبيلة إنقاذ أفراد قبيلته بالتنازل عن حقه في أرضه، والانتقال بهم منها إلى أرض أخرى جديدة بديلة عنها، لكنها مختلفة في صفاتها وطبيعتها عن أرض الأجداد، حيث لا صيد فيها ولا قنص، ولا تحديات تحتاج إلى تربية حربية كالتي ألفوها من قبل، ولا تراث أخلاقياً ومادياً لها، ولا ثقافة، في الأرض الجديدة، الملامح والقيم والسلوكيات ونمط الحياة مختلفة تماماً، فالخصوصية الثقافية معدومة، حتى التنفس بدا ثقيلاً وغير طبيعي.
الكتاب يطرح سؤالاً، كيف نضمن سلامة الثقافات الرخوة من التهديد؟ ومثال القبيلة الحمراء الهندية التي ماتت ثقافتها بسبب ترحيلها من بيئتها إلى بيئة أخرى، وفقاً لكتاب «جوناثان لير»، إنما جاء هنا للقياس على أنه يمكن لرياح العولمة التي لم تكتف بفتح الأسواق التجارية وتوحيد أنماط الحياة بما يشبه القولبة، بل ذهبت بعيداً في اختراق خصوصيات المجتمعات البشرية وثقافاتها على اختلافها وتعددها، محاولةً إلغاءها، وطمسها، وتهميشها، وكشف الغطاء عن خزانة أسرارها التراثية لتكون عرضة للاستباحة والنهب بوحشية.. رياح العولمة تلك، يمكن للثقافة القوية التي تحوطت لها بمصدات قوية، أن توقفها عند حدود معينة، لتدرأ بعضاً من مخاطرها، أو في الأقل، تخفف من وطأة خطورتها عليها، وتجنب المجتمع ما أمكن من انعكاساتها السلبية المهلكة. بيد أن السؤال الأهم في هذا السياق ولم يطرحه الكتاب، هو: هل نذهب إلى التراث لنتلطى خلفه ونتجمّد، أم نهرب إلى الأمام بانفتاحنا على الآخر، ونتعرّف إلى ثقافته وحضارته؟ هنا تبرز أهمية المسافة الضرورية ومفهومها كشرط معرفي للانتماء السليم.