بين البيت والمدرسة تتشكل حياة الإنسان الأولى، وبين الطالب والمعلم تنشأ علاقة تشبه في نسيجها علاقة الأب بالابن، قد لا يقول له أف ولا ينهره، وقد يلاقي العقوق والنسيان· إشكالية هذه العلاقة الإنسانية القديمة قدم الحضارات، بدأت تبرز في وقتنا الحاضر بخصوصية طاغية، فالمعلم المربي تحول إلى مدرس، وأحياناً إلى مدرس خصوصي، والطالب الذي كان على أيامنا يخشى أن تلتقي عيناه بعيني معلمه أو يفرق من معلمه إذا ما شاهده خارج الفصل حتى ولو كانت فصول المدرسة مغلقة بسبب إجازة الجمعة أو العطلة الصيفية، تحول اليوم إلى شخص يطاول المدرس قامة وأحياناً يتطاول عليه· هذه استهلالة لا بد منها، بما أننا في غالبنا يمثل التيار التقليدي بحكم التربية وطرق التعليم المختلفة لموضوع أتمنى أن يلاقي الصدور المتسعة والعقول المتفتحة، وأن نخرج من شرنقة المحافظة والتحجر التربوي والتكلس المرتبط بالموروث السلبي· اليوم الطالب أكثر معرفة وثقافة ووعياً بأمور الحياة من بعض المدرسين الذين أغلقوا على أنفسهم باب الصف وظلوا يتعاملون مع السبورة السوداء والطباشير البيضاء، يفرحون كثيراً حين يمنحهم مدير المدرسة طباشير ملونة، وفي علبة خاصة بالفصل أو حين يأتي الطالب مجلداً كتبه ودفاتره، مبرياً أقلامه، ويحمل منديلاً قطنياً أبيض· إن غلق باب الفصل على المدرس، جعل الطالب أكثر تحرراً باتجاه تعميق معرفته الحياتية، وما تطرحة الأيام من جديدها، لقد قرأ الصحف والمجلات وزار مواقع إلكترونية محظورة وغير محظورة، شاهد القنوات الفضائية، زار المعارض لمختلف النشاطات الفنية والثقافية والاقتصادية، تعامل مع بطاقات الائتمان والهواتف النقالة، تعرف على كل وافد من تجارة الاستهلاك، عرف وسائل المواصلات والاتصالات المختلفة، أبحر نحو كل ما كان يجهله، وتعرف على ثقافات وأنماط حياة الآخرين في الخارج، وفي الداخل كوننا مجتمعاً متنوعاً· في حين ظل المدرس في الصف يرفع عقيرته، ويعلو من صوته ليسمعه آخر تلميذ في الفصل''رأس·· رووس، دار·· دور'' و''اكتب يا ولد سطراً واترك سطراً، وحسّن خطك، وانتبه إلى الأغلاط الإملائية، وفرّق بين همزة الوصل وهمزة القطع··'' أكلت المعيشة منه بهجة الحياة، وغدا برنامجه اليومي يسيّر كافة أموره، لا أفق يتعدى سور المدرسة، ولا فكر يسمو لفكر الأستاذ الناظر، أصبحت دائرته مغلقة، وأفقه ضيق لا يتخطى أفق السادة الزملاء المدرسين المحترمين الأفاضل، يسمع بالانترنت والبلوتوث والهاكرز من تلامذته فتختلط عليه الأمور فلا يميزها عن برجر كنج وبيتزاهت أو مكدونالد· يأتي الطلبة من إجازات الصيف، فيطلب منهم المدرس في أول حصة للتعبير، كتابة موضوع الإنشاء عن كيف قضوا الإجازة الصيفية، فيكتب الطلبة وحسب توصية المدرس سطراً ويتركون سطراً عن ما شاهدوه في أوروبا وأميركا والدول السياحية الغربية، يقرأه المدرس فلا يفهم نصفه، فتكون علامة معظمهم ست من عشر· ينظر المدرس إلى حاله، وكيف تمر السنون وهو لم ير العالم إلا هذا الطريق الصحراوي الطويل الموصل في آخره إلى قريته البعيدة التي تفرح ببضائع الخليج وبتلك السيارة المتهالكة بوزنها الزائد والتي وصلّت المدرس الفاضل المتغرب في الخليج· بين المدرس والطالب اليوم هوة معرفية وشيء يشبه الصدمة الحضارية، لا المدرس قادر أن يعلو بمعرفته، ويدخل ضمن المجتمع المعلوماتي والمهاري الحديث، ولا الطالب قادر على النكوص والعودة إلى ''القهقرى''- هذه الكلمة تعجب المدرسين كثيراً- والتفكير بالعقلية التعليمية القديمة·· هذا جرس كبير·· فمن يعلقه؟ ومن يقرعه؟!