لكثرة ما يقول لي أصدقائي إنهم يستغربون استمراري في قراءة الكتب في عصر «الديجيتال» والقراءة الإلكترونية، صرت أفكر جدياً في أنني أعاني مشكلة توحد ربما!! وأنني ربما أكون شخصاً فضائياً أو غريباً، فقط لأنني الوحيدة التي تقرأ بينهم كما يقولون، ولأن مهنتي هي الكتابة وقد قضيت ثلثي حياتي في القراءة، فإنني أتمالك تفكيري، فأجد أن للمسألة زاوية أخرى علي أن أنظر من خلالها، فلماذا علي بوصفي قارئة لا تزال علاقتي وطيدة بالكتب والورق أن أكون غريبة، ولماذا لايكون الذين لا يقرؤون هم من يجب أن يراجعوا قناعاتهم! ففي النهاية لا تتمحور الأمور دائماً في منطقة الصحيح والخطأ بقدر ما تتصل بقناعاتنا وأسلوب حياتنا وتربيتنا والبيئة التي نعيش فيها! ذات يوم شاهدت فيلماً يحكي عن رجل يخرج من السجن، وقد تقدم به العمر وبدأت ذاكرته تضعف، ولأنه يعيش بمفرده بعد أن انفصل عن زوجته وأولاده، فقد قرر ابنه أن يضع تحت تصرفه رجلاً آلياً ليقدم له الخدمات دون أن يتسبب في إيذاء نفسه لأن نظره بدأ يضعف أيضاً، وقد تمت برمجة الرجل الآلي على تعليمات دقيقة ومحددة، وحين كان العجوز يحتج على الريبوت، يرد عليه بأن هذا ما تمت برمجته عليه ليؤديه له من أجل تنشيط ذاكرته، وهنا اتفق العجوز والرجل الآلي على أمر يرى أنه ينشط ذاكرته أكثر، فأعاد برمجة الريبوت كما يريد! عاد العجوز للسرقة بمساعدة الريبوت، وكان بين الوقت والآخر يذهب إلى المكتبة ليستعير كتاباً يقرأه، وقد ذهب مرة ليطلب كتاباً لم يقرأه، فقالت له الموظفة إنه قرأ الكتب كلها تقريباً ولكنها ستبحث في الأرشيف الإلكتروني عن أي كتاب لم يقرأه وسترد عليه، نكتشف أن الرجل يذهب للمكتبة ويستعير الكتب بكثافة لسبب خفي له علاقة بتعلقه بالموظفة لكنه لا يعلم لماذا؟ والحقيقة هي أن تلك الموظفة كانت زوجته قبل دخوله السجن، لكن الزهايمر مسح ذاكرة تلك العلاقة وأبقى على مشاعر خفية لا ملامح لها في داخله، في آخر زيارة تقول له الموظفة إنه لم يعد هناك كتب بعد الآن وإن المكتبة أصبحت تقدم الكتب على شكل رقاقة صغيرة تستنسخ من ذاكرة أرشيف المكتبة، فالكتب أصبحت من الماضي!! أظن أن الإشارة في الفيلم كانت ذكية جداً بين تحول الكتب التي هي ذاكرة الإنسانية إلى رقائق إلكترونية، وبين فقدان رجل قارئ كهذا العجوز لذاكرته، فأغلب الناس اليوم في كل مكان يعانون ضعف الذاكرة أو من فقدانها بشكل أو بآخر، دون أن يكون للتقدم في العمر أي علاقة بالأمر، أن تنسى جدتي التي قاربت التسعين فيما إذا صلت العصر أم لا يبدو أمراً طبيعياً، أما أن ينسى ذلك الشاب أين وضع مفاتيح سيارته في كل مرة يهم فيها بالخروج ثم يضرب على جبهته محاولاً التذكر وصارخاً يا لذاكرتي التعيسة، فإن الأمر لا يبدو طبيعياً أبداً، لكنه الوضع الأكثر انتشاراً اليوم: ضعف الذاكرة، ثم ينصحك الجميع بتناول فيتامين منشط للذاكرة وأنت لا تزال في الثلاثين من عمرك!! ضعف الذاكرة له وجه آخر، فالناس أصبحت تنسى وجوه أصدقائها القدامى، عاداتها القديمة، مشاعرها الجميلة التي كانت، وينسى البعض أهله وجيرانه وكثيراً من قيمهم الإنسانية بحجة الانشغال والركض وراء الرزق والزحام وتغير البيوت وتبدلات المدينة ومتاعب الحياة و... الخ، الناس لم تضعف علاقتهم بالقراءة فقط، لكنها ضعفت بأشياء كثيرة جداً، وأولها إنسانيتهم! عائشة سلطان | ayya-222@hotmail.com