اكتمل قبل أيام نصف قرن على رحيل الفنان جواد سليم ولكن عمله الأشهر (نصب الحرية) في قلب بغداد يتجدد حضوره مكتسبا دلالات تعمقها الأحداث وتزيدها بلاغة وشاعرية. في 23/1/1961 توقف قلب جواد سليم الذي كان متعبا بنوبات مرض حرمته أخيرا من رؤية كائنات النصب البرونزية تصطف في جملة نحتية مؤثرة، كبيت شعر مرهف اللغة، أو لافتة تعلن بدء عهد من الانعتاق كان حلما منذ عصور العراق القديمة التي استحضرها في سرد ذكي يستعرض كنايات الحياة العراقية ورموزها الدالة؛ فكان أن رأى النصب النور شاهقا ـ كما أراد له في سماء مدينته التي أحب حتى لون ترابها ـ في 16 تموز بعد ستة أشهر من إغماض عيني جواد، وقبل أن يشهد علوها في فضاء المدينة التي أسس فيها لريادة فنية عربية من خلال عمله في الرسم والنحت، وتكوينه لجماعة بغداد للفن الحديث 1951 التي أحيت الأسلوب البغدادي في الرسم مواءمةً مع الحداثة الفنية التي تلقف جواد بذورها وجذورها عبر دراسته في باريس وروما ولندن، وجعلها منطلقا لاستلهام المؤثر النحتي الرافديني، وتزويقات يحيى الواسطي، والمنجز التشكيلي الأوروبي الذي شهده ودرسه وتأثر به، فكانت تلك الروافد الثلاثة تعمق مجرى أسلوبه الفني في النحت والرسم والتصميم، وفي التنظير للحداثة والأصالة معا. وفي ظني أن جواد استحق العيش من خلال نصب الحرية المتعالي في الفضاء البغدادي لا تغيره التبدلات والهزات؛ فكأنه أيقونة يلتم حولها العراقيون وتعلو به المدينة والوطن، فكان حضور جواد في المركز من ثقافة العراق. والعقود الأربعة التي وهبتها له الحياة ملأها بوجوده الفاعل بين فناني بلده وشعرائه ومفكريه. كانت رؤى جلجامش في الملحمة حول الموت والخلود تبث فيه عزيمة العمل الخلاق، فيكتب في دفتر يومياته “مرآة وجهي”: “أي قيمة ستعطى لي: أهو الخلود أم الشهرة بعد ضياع العمر؟ إنني سأموت ككل البشر.. ولكني لن أعيش ككل البشر”. حين نستذكر جواد نهرع إلى نصب الحرية: أربع عشرة منحوتة مستقلة في التأليف، ومشتركة في التكوين تكمل بعضها، وتعطي مادتها البرونزية كلما مر عليها الزمن ـ أو مرت به في الأحرى! ـ شعورا للمعاينة البصرية بأنها تندمج في ذرات الهواء والتراب المكونة لطبيعة الفضاء والتي تشكل روح ما بين النهرين في الذاكرة الحضارية. بدءا من الحصان النافر على يمين جملة النصب حتى الثور المجسد لحضوره في الفن الآشوري ودلالته على القوة، ووجود المرأة طليقة في فضاء الحرية وكأنها تطير بلا أرجل. لقد جسّد جواد كل رؤاه في التحرر والانعتاق، واكتملت رؤيته النحتية والتشكيلية عامة في رسومه المتنوعة المواد والمضامين والتي جعلت اختياره صعباً بين النحت والرسم ،لكن منجزه يكتمل في تصاميمه وشعاراته ومنحوتاته ورسومه؛ فيهبها حياته لتخلد؛ وليخلد من خلالها.