يتحفظ علماء الاجتماع والسياسة على عبارة “التاريخ يعيد نفسه” على اعتبار أن الأحداث لا تتشابه في الجوهر حتى وإن بدت متشابهة في التفاصيل، فقد كانت هناك أزمة فقراء وديون واقتصاد متعثر في اليونان منذ مدة، قادت لمظاهرات وحرائق وأحداث غاضبة عبر عنها الناس بعنف بسبب ما يرزحون تحت ثقله من وضع اقتصادي متردٍ، لكن هذا المشهد ليس هو نفسه لدى الباريسيين الذين ثاروا عام 1789 ، معلنين ثورتهم التاريخية على حكم لويس السادس عشر وعقيلته المدللة الملكة ماري انطوانيت صاحبة عرض البسكويت المثير !! وليس هو نفسه مشهد التونسيين ولا المصريين حالياً ، هناك دائماً اختلاف في التفاصيل والدوافع الخفية والمحركات التاريخية التي تشكل خميرة الإنسان والظاهرة ومتغيرات الحدث !!
لقد دفعت البشرية الكثير، ملايين الضحايا ومليارات الأموال والفظائع والمآسي والحروب والجهود الكبيرة من أجل الوصول للأمن والسلام والرفاهية، لذلك فإن البشرية كلها لا تريد للتاريخ أن يعيد كوارث الحربين الكونيتين، ولا مآسي الأمراض الوبائية، ولا تريد هذه البشرية أن ترى مجدداً أولئك الطغاة والمهووسين بالقتل والعظمة والسيطرة، لا أحد يسعى لنسخ الماضي أو استنساخه وحتى الذين يستنسخون المخلوقات يبدو أنهم توقفوا أو أنهم يراجعون أنفسهم لأسباب تتعلق بعدم نجاح الخطوة بالشكل المتوقع .
نحن من يعتقد بأن الحدث يتكرر لكن ذلك غير صحيح، الحدث يصنعه إنسان مختلف في كل مرة وفي زمن مختلف عن اللحظة التي مضت، حتى وإن تشابهت الجغرافيا، صحيح أن الإنسان هو هو لن يتحول إلى كائن آخر، لكن الزمن يختلف حتماً وكذلك القيم الفاعلة والغرائز المحركة والقوانين المؤثرة فهي حتماً تختلف باختلاف الدرجة التي وصل إليها الإنسان في سلم التحضر والتقدم ، لذلك يفترض ألا يكرر الإنسان أخطاءه وكوارثه ولا يعيد إنتاج إفلاساته الحضارية ، إلا إذا كان مفلساً بالفعل أو لم يتعلم عبر مسيرته شيئاً يحصنه ضد غباء تكرار الأخطاء ، حتى لا يتشابه مع الفئران التي تدخل إلى المصيدة في كل مرة ترى فيها قطعة جبن ذات رائحة نفاذة !!
في عالمنا العربي لدى البعض هواية التكرار والإعادة، ولديه عادة التشبث بما يعرفه وبما هو معتاد عليه، هذه الصفة هي السبب في صراعات الأجيال وخلافات الآباء والأجداد مع الصغار ، نحن لا نتقبل الجديد بسهولة ولا نعي الأفكار الجديدة بشكل سريع، وكل جديد ننظر إليه بريبة وبعدم ثقة، وبتخوين مبني على نظرية المؤامرة، لأن التغيير يشكل تهديداً مباشراً لاستقرارنا الذي اعتدنا عليه ولمصالحنا التي تصالحنا عليها، ولعلاقاتنا ، ... الخ .
إزاء منطق التغيير نحن لا نحاول التمعن في الأمر والتفكير بمنطق الغد لأننا غالبا ما نسكن في قصور البارحة المهددة بالتهاوي ، ولو أننا فكرنا قليلا لعرفنا أن التاريخ لا يتوقف عن كتابة أحداث جديدة وهو حتما لا يعيد نفسه، وإلا بقينا في العام الأول قبل الميلاد، أن التغيير سنة ثابتة من سنن الله في الكون وفي الخلق، وعلى هذا القانون قام العالم كله وستبقى قائمة.


ayya-222@hotmail.com