للوداع مرارة في الحلق!
لا أدري إن كان للوداع نفس الطعم في أفواه الجميع؟ وهل يختلف عند الرجال، ويظهر بطعم آخر عند النساء اللاتي غالباً ما يسبقنه أو يتلينه بدموع غزار؟
أتحدث عن الوداع بالمطلق، وداع الإنسان لإنسان عزيز، وداع مكان، وداع أشياء، حتى وداع القيم النبيلة حينما يتخلى عنها بعض الناس سهواً أو عمداً لتحل محلها قيم أخرى جديدة ووافدة، فالوداع الذي أعنيه بدءاً من أن تستظل بفيء شجرة، ويعز عليك مفارقتها، لأنها منحتك للحظات برودة تلك النسمة، ورائحة ثرى الأرض أو تساقط عليك شيء من ثمرها إن أثمر واكتمل أو شكلت سحابة تحرس رأسك من وهج الشمس، ولا أنتهي عند الفراق المرّ لعشرة طويلة بين عاشقين، إما وداع قسري تفرضه طبيعة الحياة والموت أو افتراق بتراض نحو هجرة أو سفر أو طلاق.
وأعتقد شخصياً أنه كلما كان للوداع كلماته القاطعة، والفجيعة به بطريقة مأساوية أو حلّ فجأة دون رضا الأطراف، كلما كان قاسياً على النفس، وحارقاً في العين، وباقياً في الذاكرة، ولو أحصيت الوداعات في الحياة من كبيرها إلى صغيرها، فستجدها لا تعد، وتختلف عند كل شعب من الشعوب في التفاصيل والاهتمامات والقلوب الخضراء، فالدنماركي قد لا يعني له فيء شجرة، والمراح تحتها، لأن بلاده كلها أشجار، ولا يطرب للظل، لكن إن قطعت شجرة معمرة، ليقام مكانها عمارة، فستجده يحتج بكل الوسائل المتاحة، ويمكن أو يوصل رأيه للبرلمان والصحف، لأنها مرتبطة بطريقة أو أخرى بذاكرة الناس، وبلحظاتهم الحميمية، وبسلامة البيئة.
الغالبية العظمى من الناس تكره الوداع، وتبغض لحظاته، وتتمناه أن يؤجل بطريقة ما، تماماً مثلما تبغض الانتظار ودقائقه وثوانيه الطويلة، وشخصياً أحب أن أستقبل، وأكره أن أودع بشراً، شجراً أو حجراً، لأنها أمور قد عنيت لي شيئاً في يوم ما، حيث تحلّ بعد الوداع كآبة لا تعرف دخانها، ولا تعرف متى تنزاح عن الصدر، فقط تنتظر الوقت أن يفعل فعلته في التناسي والنسيان، والإحلال بشيء طارف بدل التليد!
فكرت فقط.. حين جاء معرض الكتاب في أبوظبي بكل تفاصيله السنوية، وكل هؤلاء الناس وطقوس طلب المعرفة، وفرح الوجوه، وما قد أضافوه للرأس والذاكرة، وفجأة يأتي يوم الوداع الذي تعرف موعده، لكن الفرح ظل يؤجله حتى اللحظة الأخيرة، وحين تصل ساعة الافتراق، لا تجد إلا عبارات التمني والرجاء بموعد آخر في عام مقبل، وناس قد يأتون لأول مرة، وتعرفهم وقتها، ويشكلون لك معنى، ويضيفون لك تجربة، لكن حين يصل وقت وداعهم، ينقبض الصدر من جديد، لأنه لم يحب يوماً كلمة الوداع!