أعترف بأنني أصبت بالإدمان. أعترف بأنني لم أقرأ كتابا منذ أسابيع. لم أطالع فصلا. ولولا متطلبات المهنة ومقتضيات الحال، لأصبحت الآن أميا بامتياز. جرفتني الشاشات معها إلى حيث ذهبت كاميراتها. انغمست مع جموع الغاضبين في الشوارع والميادين، من لبنان إلى تونس ومصر. أصبح الحدث الجاري هناك، أقرب، أوضح، تعيشه لحظة وقوعه وبإمكانك أن تشارك فيه برأي على الهواء، أو رسالة SMS وهذا أضعف الإيمان.
كم هم محظوظون هؤلاء الغاضبون بما وفرته لهم الميديا الحديثة، ووسائل الاتصالات المتطورة...
عمل الثوار السابقون في ظل نوع من التقية اقتضتها طبيعة الثورة السرية غالبا، ونوع من العتمة بسبب قصور وسائل الإعلام المتاحة في زمنهم. لم تندلع الثورات الكبرى بشكل عفوي وشامل. كان على فلاسفة التنوير في فرنسا، مثلا، أن يمضوا عقودا طويلة من الدعوة وتدبيج الكتب والمقالات، قبل أن يظهر جيل ثوري، متأثراً بأفكارهم، يقود الناس إلى سجن الباستيل (رمز الاستبداد والطغيان) لتحطيم أسواره. أما في روسيا، فقد كان على فلاديمير ألييتش أوليانوف المعروف بـ (لينين) ورفاقه، أن يهضموا أولا أطروحات أستاذهم كارل ماركس في المادية التاريخية وحتميات التحول الاشتراكي، قبل أن يقودوا ثورتهم البلشفية التي ستوصلهم إلى عرين القياصرة في الكرملين.
سوف يختزل الغاضبون والغاضبات في هذا العصر، الزمن كثيرا. لن يحتاجوا إلى الفلاسفة والمفكرين وكتبهم. سيكونون هم دعاة أنفسهم. بنقرات معدودة على “الكي بورد” سيدخلون إلى عالم “تويتر” و”فايسبوك”، يتبادلون عبرهما الأخبار والخبرات. فعلها منذ عام المحتجون في شوارع طهران، وأطلعوا العالم على مجريات انتفاضتهم المقموعة. ويفعلها الآن شباب تونس ومصر. فرضوا حقائق جديدة بوسائل العصر، التي ظن كثيرون أنها الوسائل المناسبة لصرف الانتباه عما يعتمل في القاع.
تحت وهج هذا اللهب المستعر، وجدت الفضائيات خبزها اليومي. قدمته طازجا، إلى المشاهدين، تحت عنوان “عاجل”.
جرى سجال ساخن طيلة الأيام الماضية حول هذه المسألة. سيقت اتهامات إلى وسائل إعلام بأنها السبب فيما يجري، أو في تسعيره. تولت أجهزة إعلام رسمية مهمة تهفيت الحدث وتغطيته. وعندما جرى تخفيف قواعد الحظر عليها ـ نسبيا ـ قبل أيام، دخلت في تنافس فج مع من اتهمتهم سابقا.
لكن صيغة “عاجل” التي تظهر على شاشات الفضائيات بلونها الأحمر الفاقع، تظهر وكأنها جانب آخر من جوانب التلاعب بالحقائق. يأتي الخبر بصفته العاجلة قبل صلاة الظهر، ويظل حاملا تلك الصفة إلى ما بعد صلاة العصر.
كنا خلال عصر الإذاعة الزاهي في الزمن العربي الغابر (أو الأغبر بحسب تسمية أحد الأصدقاء)، ننتظر مثل هذا الخبر العاجل، أسابيع أو شهورا، من “صوت العرب” بنبرات أحمد سعيد المميزة. موسيقى عسكرية حماسية، ثم يأتي صوته الأكثر حماسة: “جاءنا الآن ما يلي”. تبقى هذه الفجائية المتوقعة سيّدة الموقف، أياما أو أكثر، حتى سماع الموسيقى العسكرية مرة أخرى.
أصيب أحمد سعيد برذاذ هزيمة 1967. بعضهم حمّله مسؤوليتها كاملة، وآخرون قالوا إنه لم يكن أكثر من ناقل (...).
الآن، أصبح لكل فضائية عربية أحمد سعيدها. يطل باللون الأحمر الفاقع، ويحمل عنوان “عاجل” نقرأه مرة بعد مرة، ونعيد قراءته.. نختلف به، أو حوله، أو معه، لكننا نعرف أنه مجرد ناقل، يقف على ضفاف الحدث الذي لا يحمل صفة “عاجل”.
adelk58@hotmail.com