حالة التجريب والتجديد
لأسباب تحتاج إلى دراسة وتأمل بدأت حالة التجريب تنحسر، ولم نعد نرى تجليات واضحة لها ولم نعد نسمع شيئاً عنها، وكأنها تلاشت من عرف ونسق الكتابة الإبداعية.
ولعل واحد من أسباب هذا الانحسار له علاقة بالتخييل، فالقدرة على التجريب حالة إبداعية متطورة يغذيها خيال جامح وقدرات تقنية ومكنة على صعيد الكتابة واللغة، ناهيك عن ثقافة موسوعية تتيح للكتاب متابعة المنجز الإبداعي في أشكال الكتابة التي ينتج في حقلها؛ ومعرفة أين وكيف ومتى يمكن أن يقدم جديداً يحسب على أنه تجريب متجاوز.
والمبدع، في العادة، يلجأ إلى التجريب وما ينطوي عليه من تجديد أو تطوير للأساليب القديمة، وربما تهشيم لقوالب جامدة، بعد استنفاد الطاقة الإبداعية أو بعد نضج التكوين الثقافي أو الترويض النفسي والتريث بعد ثورة الاندفاع الأولى، التي عادة ما يتسم بها المبدع عند بدء مراحل الكتابة، فالتجريب آتياً قبل التجربة وحالة النضج أو حالة الاستقرار والتكيف مع حالة التبصر والتفكر والخوض في النقاشات العميقة مع الآخر من أجل البحث والتحري. فإذا تلاشى التجريب، فهناك ثمة خلل في حالة التجربة الإبداعية أو أنها تجربة ناقصة أو أنها تسير في طريق ما قدمه الآخرون من إنتاجات، وهو استرسال مفرط لا يتسم بالتميز أو التجدد.
حالة التميز وحالة التراكم المعرفي والمنهجية الخاصة هي العوامل الحاضنة للتجريب الفني والابتكار اللغوي والتجسيد المشتق من نواة البدء.. والتجريب الذي يقوم على التحديث المدروس وحسب المفاهيم المدركة لتلك الأبعاد وليس مجرد ثورة بلا قيم ولا تفاصيل أو مجرد البحث في تفكيك النظم الكتابية والتراثية المحورية القديمة، فالكاتب دائماً ما ينطلق من كتابته نحو التجريب وليس من المدارس الكتابية إلى التجريب. وهو لا يشكل منعطفا بذلك أو بمجرد إتيانه برؤية أو لون آخر.. لكنه يتصف بالتجريبي ويستمر ويعمل فيه على أنه كاتباً تجريبياً قادراً على التحول، وذلك هو الكاتب التجريبي بحق. التجريب يبدأ بعد هضم السابق لتجاوزه أو الإضافة عليه أو حتى نفيه، لكن ليس التجريب غرقاً في العبث والانفلات.. وقد يسبب فهم حالة التجريب التباساً بالنسبة للكثير من الكتاب. وثمة حالات مختلفة من التجريب...
هناك من أراد توظيف اللغة المحلية الشعرية في اللغة الفصيحة وغيرها من المحاولات الغريبة، وهي محاولات لا تتسم بالكثير على أرض الواقع.
وهناك من أراد دمج الحالة المحلية بالعالمية ولم تنجح تلك المحاولات؛ لأن التراث له قيمه ومساره كما للغة الشعرية المحلية عالمها، فالعامية الشعرية القديمة تختلف في نسيجها وطرحها ولها كيان مختلف عن اللغة الشعرية الحديثة.. الاتكاء على التجريب في ما يخص التراث فيه الكثير من المغامرة والتباين المختلف ما بين مسارين مختلفين، فالتجريب لا يمتد من الأساس كبنية وإنما من البناء.
ما يتضح من سمات بأن التجريب بات يغترب ولا تتضح معالمه، وبات ينسلخ من الذاكرة، ومثله حالة النقد وهي أداة جوهرية لكنها ذات مكون محدود والحالة العامة في تشرذم وفيها تشتت.