تتجلى صورة الديمقراطية، في عيون من يفتقدونها ويسعون إليها على أنها عصا موسى، التي ستشق البحر، وتُغرق من تُغرق، وتُحيي من تـُحيي، ومنذ فجر التاريخ والإنسان يعيش حالة ما بين الشك واليقين، ويتفكر ويتبصر، ويُمنّي النفس بألوان تكحل عينيه، وتغسل قلبه من ألوان رمادية عفرتها خيول وفصول، ولم يزل بعد يتهجى الحروف البدائية لما قد يؤصل له حياته، ويستعيد له وجوده ويصيغ له كيانه، ولكن تبقى الدائرة مفرغة، والعجلة تدور والأشواق تتسلق حبال الهواء، ولا جدوى من حب من طرف واحد، ولا فائدة من مشاعر لا تلقى معروفاً لدى الفطرة.. الإنسان بطبعه كائن أناني، ذاتي، هواه التملك، وعشقه الاستحواذ.. الفلاسفة قالوا كلمتهم عن الديمقراطية ورحلوا، والشعراء وآخرهم أبو القاسم الشابي أعلن صيحته ورحل دون أن يكسر قيد الذات الفردية.. يجب أن نعترف، ومن لا يعترف بالحقيقة شيطان أخرس، وجبان، بأننا في عالمنا ضارب الجذور في الكثبان، دفنّا أشياء كثيرة بمجيء الأديان، ولم نستطع دفن الذات المتورمة، سعينا إلى تغيير أنساق جمّة، ولم نستطع أن نلغي من حياتنا، مصطلح “الكبير كبير” و”الناس طبقات”.. بهذا لم يسعفنا الدين، ولم يُزِل من أعماقنا مفهوم أن التشاور مجرد خدعة، ولو لم يكن كذلك لما صارت الملحمة السوداوية بين علي كرّم الله وجهه ومعاوية.
ورغم أننا نعرف ذلك جيداً، وكل من قرأ التاريخ يعرف ذلك، إلا أننا نصرُّ على قلب الذات رأساً على عقب، لنقول للآخرين: إننا لن نكون ديمقراطيين.. أما عن موروثنا الحضاري، فهو هرمي، كما هي كثبان الصحراء، لولا ذلك لما كان عنترة العبسي في حبه لعبلة.. القضية ليست ملابس وإكسسوارات، نستطيع جلبها متى شئنا وحيثما أردنا، القضية قضية أنساق اجتماعية، نشأت وترعرعت لقرون، مضت على حب الذات، فلن تجدي معها رغبة آنية، تغير مجرى الكون، وتعيد صياغة مسار الكواكب الشمسية.. حتى نتأكد، يجب أن ننتظر ونرى ما ستسفر عنه الأيام.. القضية لا تتعلق بحسني مبارك أو بن علي، القضية تاريخ مرتبط بحضارة أمة، والأمة لا يشكّلها الحكام وإنما الشعوب، وشعوبنا تبيت ليلاً على اللاءات، وتصحو على التأفف، واحتقار الآخر، حتى وإن كان ابناً أو شقيقاً.. لا أؤمن بأن الديمقراطية تبدأ من فوق، بل هي وليدة قاعدة، وشعب يحتاج إلى تنشئة ديمقراطية، تحتاج إلى تدريب على نكران الذات.. وكل ما أخشاه من ديمقراطيات الميادين، أن تصبح مساحة تأثرية، وفئة تكره فئة، وشريحة تقول: لماذا لا أكون أنا ومن بعدي الطوفان؟..
يجب أن نحترس، حتى لا تغشينا الأضواء الكاشفة، وحتى لا ندفع مزيداً من الضحايا، في مقابل إفلاس حضاري وفشل ثقافي.
marafea@emi.ae