بين الزمان والمكان قوسان مفتوحان بينهما ذاكرة ليست تنمحي، وإشكالية تشبه الأسطورة التي يصعب تفكيك رموزها؛ ولذلك يبقى جزء من الأسطورة عصياً على الفهم•• لا تبيح الأساطير كل مخزونها حتى لا تفقد ألقها، ومن هنا تنشأ الخرافة ويكون الغموض والتعلق بمجاهيل الحكاية•• الخرافة التي نسميها في لهجتنا الدارجة “الخروفة” التي امتلأت بها صناديق الذاكرة، منذ عهد الأمهات والجدات اللواتي تلون على أسماعنا وقلوبنا كتباً من الحكايات والعوالم والشخصيات•
إذا كنتم من ذلك الجيل الذي رسم طفولته على جدران البيوت بطباشير “الصخام”، وهو يقف على مشارف السبعينيات، فلا شك في أن الزمان والمكان قد تماهيا واختلطا في تلك الحكايات الخرافية التي شاعت عن “عزيز في البصرة يبيع ويشتري•• من طول الغيبات ياب الغنايم”، وعن السمكة الساحرة التي استقرت في الذاكرة حتى اليوم باسم “البديحه” التي نسجت سردها من خيوط أسطورة السندريللا في الأدب العالمي•• إن الزمان هلامي في كل الخراريف•• والمكان عصي على القياس وعلى أن يقبض عليه بأصابع اليد، وأطراف الذاكرة•
هناك سر لا نعرف كنهه بيننا وبين الزمان الذي ذهب والمكان الذي كان، ليس في الخراريف والحكايات القديمة فقط، ولكن في حياتنا حينما نغرق في سرديات الماضي بكل مفرداته الحميمة، وحينما نمر على ما تبقى من ذلك الماضي متنقلين في تجاويفه التي لا تزال ماثلة - هذا إذا أسعدنا العمر وبقي شيء من أطلال الأمس - إن مجرد الوقوف على أثر من الماضي يدهشنا ويسمرنا في مكاننا، يضع على شفاهنا ذلك السؤال حول صحة المقولة التي تؤكد أن الزمان يلتهم من المكان أجمل ما فيه، والأعجب حين نعرف أنه التهم جزءاً كبيراً من حيز المكان نفسه، وكأنه خبأه في تلافيف ذاكرة السنوات التي ذهبت ولن تعود ثانية!
يلاحظ الناس أن بيوتهم التي نشأوا فيها صغاراً هي أصغر بكثير مما كانوا يتخيلونها، وأن المدرسة الكبيرة التي احتضنت أحلامنا وشقاواتنا ليست بحجم قارة، كما كنا نراها، بل هي في الحقيقة قطعة أرض صغيرة جداً، وحتى بوابة المدرسة الضخمة التي كان يعبرها عشرات الطلاب دفعة واحدة ليست سوى باب صغير ليس إلا، ما هو السر يا ترى؟ من سرق المكان؟ من ضحك على الآخر وقضمه بشكل سافر؟ الزمان أم المكان أم تحولات الأيام؟
حارات اللهو القديمة ماثلة هناك في الداخل، شاخصة بمنازلها، وبوابات بيوتها القديمة المتداعية، بسكيكها “حاراتها” التي كنا نظنها واسعة، فإذا نحن نفاجأ اليوم بأنها أضيق من أن يمشي فيها شخص واحد! كيف يحدث أن يلتهم الزمان أطراف المكان؟ هل تتناقص الأرض أو المكان من أطرافه مع مرور الزمن؟ نعم يحدث هذا حقيقة، وقد عشناه ورأيناه وصدمتنا الرؤية كثيراً فقيل لنا أيضاً إن الصغار يرون المكان كبيراً في طفولتهم لأنهم صغار، لكنهم بمرور الأيام يكبرون، يتغيرون، تكبر مشاهداتهم ورؤاهم وعوالمهم الجديدة، لكن ذلك المكان الذي غادروه صغاراً لا يكبر ولا يتغير - يبقى على حاله صغيراً وضيقاً، وربما لا يكون جميلاً أو مريحاً كما نعتقد.
بيني وبين حارات اللهو القديمة في فرجان “أحياء” ديرة القديمة عشق ليس يخفت، وعلاقة لا تفسر، وتوقد لا يهدأ لاستحضار الملامح والتفاصيل، بيني وبين حارات اللهو القديمة هوى يبيح دمع العين وخفق القلب، أحب تلك الحارات ولا تفسير عندي لصبوتي، أفسر ماذا؟ والهوى لا يفسر، كما قال نزار قباني رحمة الله عليه.
ayya-222@hotmail.com