كان الحكيم عطشاناً من شدّة الصوم، لكنه يتلذذ في الوقت نفسه بالظمأ المخلوط بالصبر ويستشعر حلاوة ما في مرارة الجوع. يعبر القرى الجافة ويحاول أن يفهم معنى العطش، من خلال نقيضه، الارتواء. وكان يسأل: هل النهر يروي عطش البحر حين ينحدر من أعالي الجبال ويعبر السهوب ليذوب في جوف المحيط بعد أن يقطع نصف الأرض؟ أم أنها رحلة انتحار أسطورية للمياه العذبة التي تحن إلى الملوحة فتشق الأرض لتعود وتلتقي بالبحر من جديد؟ وهل النقيض العذب ينجذب إلى نقيضه المالح. أم هما متنافران؟ ثم ماذا عن الغيمة وهي مخزن الماء في السماء. هل تحن إلى الجفاف فتذهب بعيداً لترمي حمولاتها في الصحارى العطشى؟ من الذي يجذب الآخر في لعبة الماء على الأرض؟ والحكيم لا يعرف الا أن يسأل ولا يهم عنده الجواب أكان صحيحاً أم خطأ. ولا يعرف هل الخطأ نقيض الصواب أم المكمل له. توقف الحكيم في قرية مهجورة وحاول أن ينام قليلاً تحت شجرة جافة أغصانها تيبست في العراء. لكن قطرات خفيفة من المطر أيقظته ليرى من جديد تفتح الزهرة وولادة البرعم الحي من الغصن الميت. وقادته لحظة إشراق نادرة الى إلغاء الحدود الفاصلة بين الموت والحياة، فهما ليسا نقيضين كما يظن الجميع انما حالة واحدة مستمرة تتغير وتتناقض في القشرة الخارجية، لكن الجوهر الأصلي لها لا يمس. ولم يعرف الحكيم بعد هل الموت يولد من الحياة أم الحياة تولد من الموت؟ وهو لا يهتم كالعادة بالإجابة عن أسئلة من هذا النوع. ثم مر الحكيم في قرية كلها فقراء ورأى الدموع تنحدر من عيون سكانها فصار يسأل: إذا كانت الغيمة تروي الجفاف في الأرض، فإن الدموع تروي هي الأخرى شيئاً في جفاف الأرواح الصابرة. شكلياً تولد الدمعة من العين لكن منبعها الروحي يكون من القلب. ثم اعتلى الحكيم صخرة وسط الساحة العامة وراح يخطب في الناس عن قيمة الدمع ومعناه. لكنهم الناس تفرقوا ورحلوا يبحثون عن الحكمة في الطبيعة والسماء والنجوم البعيدة وليس من أفواه الحكماء. بعد واحد وعشرين يوماً من الصيام المتواصل وصل الحكيم إلى منبع الماء وسط الأرض وأخذ رشفة عذبة ثم كتب قصيدته الكبرى بعنوان “ارتواء” التي يقول مطلعها: ترتوي عيوني بمشاهد النور ويرتوي قلبي بمحبة العالم الذئاب تعوي على البدر البعيد وأنا مثلها اناديك يا نبع روحي الأول والأزلي أيها السؤال خذني لأشرب من عذوبة المعنى متجاوزا وهم النقيض والنقيض عادل خزام akhozam@yahoo.com