كيف يمكن لعقل أن يصدق أن عراق بابل وسومر، عراق الملحمة العظمى جلجامش، عراق بدر شاكر السياب وعبدالوهاب البياتي، عراق القلم وما يسطرون، يفكر اليوم في القرن الواحد والعشرين بأن يمحو أثر أمية ستة ملايين من أبنائه، ولكن هذا العقل يقف مصدوماً أمام آلة الحرب الطائفية وأقطاب المحاصصات والمناقصات والانتماءات التي لا يعلم بها إلا الله.. يقف العقل مسلوباً عندما يبحث أبناء الرافدين وبصرة النخيل الباسقة وماجدات الحلم يبحث هؤلاء عن قطرة ماء من عرق الأرض النازفة هماً ووجداً ولوعة وضياعاً وانصياعاً للمجهول.. يقف العقل مكلوماً عندما ترفع الأقلام وتجف الصحف عمن علموا العالم النون والضاد وما يفعله المضارع بالماضي وما يفقده المستقبل حين لا يكون للحاضر عين ترى وأذن تسمع ولسان يتكلم.. يقف العقل متسائلاً.. لماذا العراق بالذات؟ أليست هذه مهزلة من مهازل التاريخ عندما يخوض بلد العلم والأدب والإبداع الفريد معركة حياة أو موت من أجل بصيص من نور يعيد للمارد شيئاً من أقداحه وأفراحه رغم كل جراحه وما يغيب في الأفق وما يسكن في الجسد ويسلب الروح. يقف العقل متسائلاً.. أين صار الحلم الذي جاء بغتة وما أخمدت الحرب اللظى أوزارها، جاءت حروب وطغت كروب واجتاحتنا ضروب من التأويلات والتفسيرات والتصريحات والشعارات واليافطات ولم يزل العراق الذي فَقَدَ ظله الكوني وخسر هالته وضيع هامته وانصاع مرغماً للغوغاء والدهماء والشعواء وتناهشت جسده المثخن بالجراح المثقـــل بأحـــزان الفقدان النطيحة والمتردية وما أكل السبع. اليوم العراق وهو الباحث عن لون وجهه وشكل سحنته ومعالم هويته يتحدث عن أمية طاغية وعن فقر مدقع وعن جرائم ترتكب بالجملة وفي وضح النهار وأمام أعين الجالسين والواقفين. والمتسللون يأتون من الكتف والجانب ومن جهاته الأربع وكل يغني على ليلاه، وكل يدخل ويخرج تحت أرتال من الذرائع والحجج والأوهام والقيم والعقائد السوداوية التي لا هم لها إلا تكسير أطراف العراق وقصقصة أجنحته وتقليم أظفاره حتى يصل الأمر إلى بتر الساقين والذراعين.. المتسللون اليوم يريدون خطف حلم العراق الذي لم يأت بعد ولم تتشكل أطرافه، المتسللون اليوم يراوغون من خلف حجبهم حالكة السواد لأجل أن يبقى العراق ضعيفاً مضعضعاً منهكاً وليبقى من يريد أن يبقى حارساً شرطياً قديماً حديثاً مع اختلاف الشكل واتفاق المضمون.