تأملات في معنى الشعبية
تحت يافطة اسم المحل كتبت هذه العبارة: “لبيع المواد الغذائية والأعشاب الشعبية”.. كنت اعبر الطريق الذي أحب دوما، طريق البحر، حيث أمعن التحديق في المشهد الأثير إلى نفسي، مشهد المراكب والسفن العابرة من الأقاصي إلى ميناء الشارقة، حيث البحارة في شؤونهم اليومية يروحون ويجيئون فوق أسطح السفن ربما لأنهم لا يطئون اليابسة لأنهم دوما على شفرة انتظار الإقلاع محملين بالبضائع البديلة.
في زحمة المرور كانت السيارة لا تتجاوز في سرعتها العشرين أو أكثر قليلًا إذا سنحت الفرصة، لفت انتباهي هذا العنوان: “الأعشاب الشعبية”، وعلى مسار الطريق الصعب والمزدحم رحت استدرج الذاكرة فيما اختزنت طويلاً من مفاهيم حول الشعب والشعبية.
ماذا يعني تعبير الشعبية: الأعشاب الشعبية، الطب الشعبي، المأثورات الشعبية، الرقص الشعبي، الموسيقى الشعبية، الحكايات الشعبية، التراث الشعبي، الذوق الشعبي أو البلدي على حد التعبير المصري، الذي يستبطن الاستنكاف والسخرية والتقييم الدوني وربما الجهل والأمية وغيرها من مفاهيم وأوصاف وتسميات؟
أن الثقافة بمفهومها الكلي تشمل العادات والسلوك والمفاهيم والقيم والعقائد التي يعبر عنها شعب ما بمواقفه من الحياة، ومن ثقافات الشعوب الأخرى، ويختلف بها عنها.. وهي الثقافة التي تميز شعب عن شعب.
وهذه الثقافة ومنبعها وجذورها وامتدادها، من يبدعها ويؤصلها ويؤكد تمايزها ويتناقلها عبر الأجيال؟ أليس الشعب؟ ألهذا نسميها شعبية؟ ولماذا حين يكون مصدرها الشعب تكون ثقافة متدنية أو غير متحضرة؟ هل أن مفهوم الشعب أدنى في القيمة من ثقافة النخبة؟ وماذا عكس هذا المفهوم؟ ما هي الثقافة التي توصف بغير (الشعبية)؟ أين مصدرها ومرجعيتها؟ ألا يبدو أن مصدر هذا التوصيف يكمن وراءه تقسيم يشي بالبدائية والتحضر؟
وإذا صنفنا بعض الأغاني مثلا بالشعبية فبماذا نسمي الأغاني التي تملأ أسماعنا على مدار الأيام عبر قنوات الأعلام المسموعة والمرئية؟ أليست الشعوب هي مصدر الحكمة والأساطير والخيال المبدع والتاريخ والعقائد بتنوعها عبر كل العصور؟ فلماذا تصبح مفردة الشعبي والشعبية مفردة متدنية في القيمة والتعريف؟
ثم .. من أولئك الذين هم غير شعوبيين وابدعوا كل هذا التراث الإنساني؟ من أين انحدروا ومن أين استقوا حكمتهم وقيمهم وقيمتهم؟
أليس في هذا التوصيف يكمن تقسيم واضح ساطع؟
وإلا من أين جاء هذا التقسيم واكتسب قيمته المتدنية؟ كل ما ينتمي إلى الأعلى يندرج في الرقي، وكل ما ينتمي إلى غير ذلك، يندرج في الأدنى. والأعلى تعني دوما المركز والهيمنة الاقتصادية. ومن هذه الهيمنة تنحدر الألقاب وطبقات المجتمع لا غير.
ورغم أن كل طبقات المجتمع تنحدر من الشعب ألا أن من لا يملكون يقعون في أدنى سلم التقييم ونسميهم أو نطلق عليهم تصغيراً: الشعب، الدهماء سواد الناس. العوام .
في حين إن هذه المفردة تحتوي الكل، وليس الجزء، في حقيقتها. وتسمى ثقافتهم بكل تجلاياتها ثقافة شعبية، أي ثقافة أدنى لذا فهي لا ترقى إلى ثقافة الخاصة، أو النخبة، أو أسياد القوم.
إن المآثر الشامخة في تواريخ الأمم والتي تنسب عادة إلى الملوك والأمراء والسلاطين، في سجل التأريخ ( ذو العين الواحدة!) ما هي سوى إبداع الشعوب ومعاناتها وتضحياتها، والمدونة فقط، في سجل النسيان والمجهول!
hamdahkhamis@yahoo.com