في حياتنا اليومية نماذج لا محدودة تؤكد عدم اكتراثنا للوقت، ففي الدوام لا تجد الموظفين في قالب واحد من حيث التزامهم بالوقت بل يأتي هذا إلى الدوام في الثامنة صباحاً ويأتي آخرون بعد الثامنة بل وقد لا يأتي البعض الآخر من الأصل إلى الدوام·
والقضية عندما نتأملها نجدها ضاربة بجذورها في صميم الثقافة المجتمعية، فالوقت هو الذي يتحكم في الناس ويسيرهم وليس العكس، ومن أشد المعضلات التي تواجه برامج التنمية في العالم مشكلة إدارة الوقت، وتنفق دول متقدمة ميزانيات ضخمة لغرس ثقافة إدارة الوقت وحسن استثماره، وقد يختلف الأمر عندنا عربيا إذ أن معظم الدراسات العربية تشير إلى أن الوقت لا يحظى بالاهتمام الذي يجده في ثقافات أخرى حولنا، ومن يتابع انتاجية الموظف العربي أياً كان موقعه يدرك خطورة الآثار السلبية المترتبة على الفشل في إدارة الوقت·
وهناك ما يشبه التخصص الجديد في المراكز العلمية المتقدمة اسمه إدارة الوقت، إذ لا يمكن أن تعين شخصاً في موقع المسؤولية قبل أن تكون لديه مهارات قوية ومعدلات عالية في استثمار الوقت، وتوجيهه نحو خدمة أغراض الشركة أو الهيئة التي يديرها، ويشعر المرء بالحزن الشديد، عندما يطالع جدول اجتماعات جهة ما سواء أكانت مؤسسة أو شركة أو حتى إدارة صغيرة ويعجب المرء من طول المدة التي تستغرقها مناقشة كل بند من بنود هذه الاجتماعات التي تتحول إلى سوق عكاظ، ومن نافلة القول أيضا التأكيد على أن مؤتمراتنا العلمية وغير العلمية لا يؤمن معظمها بقيمة الوقت، فالجلسة الافتتاحية للمؤتمر تبدأ بالخطب الرنانة للسيد منظم المؤتمر ثم خطبة أخرى أكثر وجاهة ورنانة للسيد مساعد السيد منظم المؤتمر ثم أحد المشاركين في المؤتمر، ومن بادئ ذي بدء إلى، ومن هذا المنطلق، وغيرها من المفردات التي يجهد فيها الخطباء أنفسهم، ومن منطلق لآخر يجد الحضور أنفسهم في رمسة لها أول وليس لها آخر·· فهذا يستشهد ببيت من الشعر الجاهلي، وذاك يستشهد بأبيات للبحتري وثالث يضرب مثلا شعبيا، ويصبح تقييم المؤتمر أو الندوة في نظر هؤلاء مرتبطاً بالسؤال التالي: شو رأيك في الكلمة التي قدمتها؟ وبعد إلقاء الكلمة يكشف صاحبنا أنه نسي أن يشكر سعادة رئيس الدائرة أو سعادة الوكيل، ويصبح المكتوب مقروءاً من عنوانه فلا مؤتمر ولا يحزنون ولا ندوة ولا غير، وإنما المسألة رمسة في رمسة·
وبالطبع فإن ما بدأت به هذه المؤتمرات يجب أن تنتهي به، فالرمسة الأولية في الافتتاح لا تقل أهمية عن رمسة الختام ومن هنا تجد نفسك في معركة حقيقة اذا غاب عنك رضا الوالدة في الصباح، وأصبحت من سوء حظك عضوا في هذه اللجنة العودة المعروفة باللجنة العليا للتوصيات، ففي هذه اللجنة تكتشف المأساة وتجد نفسك وجها لوجه أمام صور بشرية تنتمي للعصور الوسطى فهذا يتحفظ على استخدام هذه الكلمة، وذاك يعترض على استخدام هذا الوصف، وثالث يثني على الرأي الذي ذهب إليه ذاك·
وأذكر أنني كنت في مؤتمر لوزراء عرب وجلسنا نتابع إعداد التوصيات لمدة أكثر من ثلاث ساعات، فهذا الوفد يعترض وذلك يثني وأنا طفرت من المعترض ومن المثني، وقد كانت الكلمة التي استحوذت على النقاش وأخذت من وقت العرب الكثير كلمة اسمها مرئيات فالبعض يرى أنها رؤى، والبعض الآخر يرى أنها مرئيات، وهذا يورد ما يساند رأيه وذلك أيضاً، أما أنا وربعي فقد غالبنا النعاس حتى خمدت الحرب الكلامية بين الطرفين، وقلت لنفسي عليه العوض لو حضرت للربع مؤتمراً مرة ثانية، والحمد لله ما زلت على العهد·