إذا كانت فلسفة (عدم الانحياز) تصلح في العمل السياسي، فإن هذه الفلسفة لا تصلح في العمل الثقافي أو الإبداعي، فالثقافة محتوى فكري وحضاري وفني وإبداعي مبدئي لا يحتمل المراوغة أو المهادنة أو الرقص على الحبال، كما أنها لا تقبل المخاتلة والتلوّن والتبدّل والتقلّب، ولاسيّما حين يتعلق الأمر بممارسات ضد الإنسانية، وبجرائم ضد البشر، وباعتداء مباشر ومتعمد على المواطنين. الثقافة والوطن توأمان ملتصقان، وفصل أحدها عن الآخر سيؤدي إلى موت الاثنين معا، فلا ثقافة بدون وطن، ولا وطن بدون ثقافة، حتى لو اعتبر المثقف أن العالم وطنه، فهو لم يبتعد كثيرا عن وطنه، فالوطن ليس مجموعة بيوت وأشجار، إنه الإنسان بكرامته وتاريخه وعاداته ومعتقداته وتقاليده وحاضرة ومستقبله، إنه مجموعة من القيم والمفاهيم التي يعتبر المساس بها مساسا بجوهر الإنسانية، والاعتداء على إنسان دون وجه حق هو اعتداء على الإنسانية بكل ما تحمله من إرث راق ومتحضر، هو إذن اعتداء على الحضارة، وعلى الثقافة، أي على الروح، وفي النهاية اعتداء على الوطن. تمر أحداث جليلة ومصيرية وخطيرة ومهمة منذ سنوات طويلة على الوطن العربي، وباتت القصيدة الوطنية، الرواية الوطنية، المقالة الوطنية، في عرف العديد من النقاد والمحررين الثقافيين، ليست إبداعا، وإن مجرد ذكر مكان في الوطن سيقود الناقد إلى حكم قاس على العمل الإبداعي، أقله أنه عمل مباشر، ناسين أن المباشرة مستويات ومسارات، ومتناسين أن لكل مقام مقال، ولاسيّما في العمل الروائي، أو القصيدة الحاملة للنفس القصصي، وهذا الاتجاه دب الرعب في مفاصل الشعراء وعصب إبداعاتهم، وقيّدهم داخل مبنى العمل الإبداعي الذي يتحول إلى سجن في مرحلة من مراحله، ولهذا، تراجعت القصيدة الوطنية حتى كادت تتلاشى لصالح اللغة الرمزية والمختبئة خلف المعنى. أنا لا أدعو إلى الخطابية أو المباشرة الفجة في العمل الإبداعي، ولكنني أدعو المبدعين والمثقفين العرب لاتخاذ مواقف تليق بإبداعهم وثقافتهم، والخروج من شرانقهم، ومغادرة صومعاتهم ومقاهيهم وصعلكتهم نحو تفاعل أكثر مع قضايا الناس، وأرى فيما أرى خلال متابعاتي اليومية للحراك الإنساني في العالم العربي، خروج الحقوقيين والمهندسين والفنانين والمهنيين وغيرهم، بينما لا أرى المثقفين والكتاب والأدباء، ولا أقرأ للمبدعين نتاجا يليق بهذا الحراك، أو يليق بهذا الموت المجاني المتجول في الطرقات. العمل الثقافي ليس (بدلة سموكن) وربطة عنق وياقة منشّاة، إنه حفرٌ متواصل في جدار العتمة بأزاميل النور، ولملمة بكاء الأطفال عن شجر اليتم، ومطاردة هواجس الغرباء في أوطانهم، والعمل الإبداعي يد ملائكية تلامس جروح الثكالى، وتربت على رؤوس الأطفال لتستعيد أحلامها، وروح ملونة ترسم أقواس قزح على مسافات الهجير، لتجمع قلبين بعد افتراق، وتبني بيوتا للمشردين، وهو ضد المياه الراكدة والصمت، وكظم الغيظ وضد السكون، والمبدع شاهد على تفاصيل يومه، وعصره وزمنه، وشاهد على نفسه، وعليه أن يطلق حكماً في هذه اللحظة على ذاته، أولا وأخيرا. أنور الخطيب akhattib@yahoo.com