الممارسة النقدية
تلقيت تدريبي الأساسي في النقد الأدبي على أن أكون ناقد شعر بالدرجة الأولى؛ فكانت أطروحتي للماجستير ثم الدكتوراه عن الصورة الشعرية بوصفها الخاصية النوعية الأولى الدالة على وجود القصيدة من ناحية، والفارق الحاسم بين الشعر والنظم التعليمي من ناحية ثانية. لكن ما إن انتهيت من أطروحة الدكتوراه حتى وجدت نظرية الشعر تشدني إلى النظرية الأدبية بوجه عام. وكانت النتيجة أنني اتسعت بدائرة اهتمامي من النقد التطبيقي للشعر إلى التنظير له وللأدب بعامة. وهكذا تعلمت التركيز على الخصائص النوعية للأدب، وذلك من الدائرة التي تتسع لسؤالي الماهية والكيفية في مجال البحث عن ماهية الأدب ووظيفته وأدواته. وقد قادني ذلك إلى النظرية النقدية ودروبها. وهو المجال الذي تجد نفسك غارقاً فيه بمجرد أن تسأل عن ماهية النقد ووظائفه وأدواته. وهي الأسئلة التي تقود في النهاية إلى مجال النقد الشارح أو ما يطلق عليه البعض نقد النقد، حيث تتجلى أسئلة المنهجية بوصفها حجر الزاوية التي تنطلق منه الدراسات الأدبية وتعود إليه، وذلك على نحو يمايز بين نقد ونقد أو درس أدبي ودرس أدبي مغاير في التميز والأصالة والعمق.
والحق أنني أدركت عندما وصلت إلى هذه المرحلة أن النقد الأدبي أشبه بقاطرة تعين الناقد على الارتحال بين العوالم العديدة للعمل الأدبي واستكشاف كل ما خفى منه وكل ما لا يزال في حاجة إلى الكشف. ومن المؤكد أن الناقد الأدبي سيظل راضياً عن هذه القاطرة ما ظلت تقوده إلى هدفه وتعينه عليه. لكن يحدث في حالات كثيرة أن الناقد يطلب من القاطرة أن تحمله إلى أماكن لم يفكر فيها من سبقه من النقاد، وقد يدفعها نوع ثان من النقاد إلى مسالك مغايرة للمسالك التي تعودتها. وقد يراها نوع ثالث من النقاد عاجزة عن عونه، أو يرى أن قدراتها ضعفت مع الوقت، أو أنها لم تعد تؤدي عملها بالكفاءة التي عودته عليها، وهنا لابد من التوقف عند القاطرة وإعادة فحصها للتأكد من سلامتها أو تزويد قدراتها بما يضاعف من طاقتها. وهذا بالضبط ما نسميه نقد النقد الذي ينتسب إلى مجالات النقد النظري.
ومن المؤكد أن كل ناقد أدبي لابد أن يحسن من جوانب التطبيق بقدر ما يحسن من جوانب التنظير حتى يكون ناقداً متميزاً. ولقد علمني طول الممارسة أن التمايز بين النقاد ينبع من القدرة على الجمع بين خبرات التطبيق والتنظير. وهذا الجمع – بدوره- يقود الناقد إلى أن يدرك أن أجهزة النقد الأدبي أو قاطرته تتغير عادة، أو تخضع لتغيرات جذرية مع كل تحول حذري في الصيغ المعرفية التي تنطوى عليها الممارسة النقدية تنظيرا وتطبيقا، بل إن تحول الصيغ المعرفية والفكرية الأساسية في مجتمع من المجتمعات تؤدى إلى تحول كل من الأدب ونقده في آن.