«فاقد الذاكرة»!
أعرف معنى أن يصبح الإنسان فاقداً ذاكرته، وأعرف فاقد الهوية، وأعرف فاقد الإحساس أو فاقد الاتجاه أو فاقد التوجه، وأعرف بدل فاقد، ولكني لم أعرف حقيقة أن يكون الإنسان فاقداً لـلـ«موبايل مومري» أو الذاكرة الرقمية الخاصة بهاتفه، إلا حين أضعت ذاكرة هاتفي الجوال، واكتشفت أنني لا أساوي «آنة حمراء أو جرخية» من دون تلك الذاكرة التي تربطني بالاتجاهات الأربعة، وبالأشخاص، والأصدقاء، والأماكن، اكتشفت فجأة أن كل حياتي معلقة في تلك القطعة الصغيرة «التشبس» لا رقم البيت أعرفه، ولا رقم أمي، ولا رقم أحد من أخوتي، ولا رقم العمل، ولا حتى رقم سهيلة، اكتشف حينها أن الرأس الذي أحافظ عليه وأحمله، ما هو إلا قصائد لشعراء جاهليين، ومفردات لغوية مختلفة، وثمار مناقشات في السياسة والدين والجنس والثقافة والإعلام والاجتماع والفنون، ومعلومات مفيدة من هنا وهناك، وذاكرة سينمائية، أما الأرقام فلا وجود لها بتاتاً في تلك الجمجمة، لا رقم صحيح ولا رقم مجبر، ولا رقم بطاقة بنكية، ولا رقم يمكن أن يطعمك لقمة هنية.
فجأة تكتشف أيها الإنسان أنك بلا أصدقاء، وبلا عضيد أو عقيد، وبلا أرقام تدلك على الخير أو العودة لمنزلك متأخراً من دون قلق من فيه، كل الذاكرة فارغة، حتى اللحظات الجميلة المسجلة والتي تستمتع بها في أوقات الضيق غير موجودة، والناس الذين تعودت الاتصال بهم يومياً يفتقدونك، ويعاتبونك، ويعتقدون أنك مقصّر أو بك شيئ من نصب أو تعب، أما سهيلة وأخواتها فيمكن أن يجزمن أنه شطّت بك شياطينك أو فكرت بواحدة أخرى، وتبدأ بعدها المسلسلات المكسيكية، والأوهام، ووضع الصور المتخيلة: يمكن عرف «مواطنة غير نمونه.. طراز جديد يعني، أو يمكن شقراء وعليها يلالها، أو مغربية من الجيل الثالث، أو الهيس طاح على واحدة سعودية من زواج المسيار، ليش ما تكون لبنانية حافظ الخمام رقم «سيليلورها» وناسي رقم نقالي، معقول عيل «فلانتاين داي» يخطف وما يتصل بي.. خليه يولي».
تذهب بهن المخيلة، وتنتفخ عندهن الحويصلات الهوائية، والشعب الرئوية، ولا واحدة تصلي على النبي، وتقول: يمكن المسكين تيلفونه عطلان أو يمكن تعبان أو يمكن مسافر عمّان أو يمكن «مومري النقال خربان»!
بعد حادثة فقد الذاكرة الهاتفية، أيقنت أن إنسان العصر الجديد مجرد رقم صغير، يمكن أن تنساه أو يضيع منك أو تفتقده هكذا فجأة، وأن العلاقات الاجتماعية مجرد رموز وتوصيلات وبطاريات مشحونة، ونقالات جديدة، من الأجيال الجديدة والمتوائمة مع التكنولوجيا المتقدمة والمحدثة، لقد تمنيت حينها لو أنني أستطيع أن أذهب إلى بيوت من أريد الاتصال بهم، واحداً واحداً، وأقرع أبواب بيوتهم بيدي باباً، باباً، فقط لأتذكر أن لي أصدقاء أعرفهم، وأنهم لم يغيبوا عن الذاكرة، وأفتقدتهم، مثلما أفتقدتهم حينما فقدت «الذاكرة»..!
amood8@yahoo.com