كان المعنى واحداً، والناس من حوله دوائر لا تنتهي، عندما رفع الإنسانُ الكتاب عالياً وسط الجموع وقال: هنا أصل الأشياء وفصلها. لكن الريح هبّت عنيفة في خريف غادر فتطايرت الأوراق، وتناثر المعنى ناقصاً في عقول كثيرة، وتشردت الكلمات بين ألسنٍ شتى وتلونت الحروف بتأتأة جديدة. وما قيل في الماضي، عادت الأفواه تقوله اليوم ولكن بالمنطق المقلوب، وبدلا من المحبة، ابتدع جاهلٌ قيمة للخصام واتخذه منهجاً في العناد. وبدلا من يد المصافحة، مد الحاقدون السيف ونحروا أزهاراً كثيرة، وظل نسلهم يتغذى على المراوغة، وصار لا يروي عطشهم سوى النار. وما من مغيث لأبناء اللغط، سوى الاحتكام للقلب، وللنية الصافية المغسولة بدم الحب. كانا اثنين، كلاهما من بطن وظهر، لكنهما اقتتلا على الشبر الزائد في ركن البيت، هذا يحمل السكين ويطعن في مرآته فيقتلها، وذاك يرميها بحجر فيتناثر نسله فيها الى رماد. ثم يأتي الغريب ضاحكا ليدخل من غير طرقٍ ولا مفتاح، يدوسُ على الدم العبيط، ويرفع راية مُلكه على الخراب. كانوا ثلاثة، البحرُ والمسافةُ والحنين. يصعد الغريب سفينة أقداره ويرحل باتجاه الغموض، وفي كل أرضٍ يلتقي بنقيض ذاته، وتكبر في روحه أجنحة الشوق، ولا يعود يعرف أين اختفت ظلاله الأولى. وسوف يظل الحنين تاجاً نحاسياً على رأسه في ليالي الأرق، والبحرُ أغنية من صدى يتكرر كلما ارتفعت موجة الضد وأغرقت عيونه بدمعٍ أزرق. أما المسافة، فهي التأرجحُ ما بين حبلين كلاهما مشنقة ناعمة. وسوف يظل الغريب يلهث في عبور الأرض، ولن تهتدي قدماه يوماً الى الرسوخ. كانوا كثيرين، تجمهروا قرب بوابة الخلود بلا مفاتيح حتى تيبست أيديهم وهم يطرقون هذا الجدار. يتقدمهم البخيلُ يحصدُ ويكنزُ طيلة عمره أكواماً من عرق الفقراء، لكنه حين يموتُ، تعود تتبخر كل كنوزه في المشاع، وتطوى سيرته في الرماد. ثم يأتي الجائرُ محمولا على عرش من الريش، يدك على باب الخلود بجيشٍ وجاه، فلا يجد غير الحديد يصده والنسيان يفتح فمه الواسع ويخفيه. بعد ذلك تأتي طوابير من عاثوا في النميمة حتى صارت نشيداً في حلوقهم، وهؤلاء يُحرقون بالصمت، وتكوى ألسنتهم كي تستمر العذوبة لحناً في غناء العصافير. كانت قطرة سقطت من حبر الذهب، عندما رفعتها، وراحت يدي تخط وصفاً يفوق الضوء، فولد اسمها نجماً ينير الحب كله.