تفاصيل الذاكرة
وجدتني اجتر ذكريات الأيام، لا سبب منطقي يجعلني أفعل ذلك، لكنها ذكريات تدفع نفسها بإلحاح نحو سطح عقلي، وجدتني لا استطيع مقاومة بروزها على السطح من جديد.
ترى ما الذي يجعلنا نحتفظ بذكريات قديمة بالية؟ هل لأنها جميلة ونعتز بها أم لأنها قاسية وتركت بصمتها التي لا تمحى من الذاكرة؟
لابد أن يكون كلا الاحتمالين واردا، فنحن نحتفظ بالذكريات الجميلة والمؤلمة وبتفاصيل قد لا يكون لها لزوم، غير أنها موجودة، بل أنك لا تتحكم في ما يتم حفظه وتخزينه، فهناك أشياء حتى لو أردت محوها أو شطبها من الذاكرة لا تستطيع. إن ذلك يجعلني أقف عاجزة عن تخيل قدرة العقل البشري على الحفظ والاستدعاء، في الواقع وجدتني ادخل في نفق مظلم من التفكير في إمكانيات العقل البشري والكم الهائل من المعلومات التي يخزنها، ترى أين يخزنها؟ هل يعقل أن يكون كل ذلك يتم داخل هذه الجمجمة الصغيرة المحدودة؟ ترى ألا يمكن أن يكون هناك جهاز «سيرفر» مركزي كما هو في لغة الكمبيوتر، موجود في مكان ما لحفظ كل تلك المعلومات والتفاصيل لحياة الفرد والتي تمتد لعقود طويلة؟
وجدت مخي يشعر بإرهاق من التفكير في هذه الفكرة حتى يكاد يتعطل ويحتاج إلى إعادة تشغيل، أو حتى إلى فصل التيار الكهربائي عنه قبل أن ينفجر، ولم أجد إلا أن أقول سبحان الله..!
المهم، أعود إلى الذكريات التي كانت تدفع نفسها للخروج إلى سطح مكتب عقلي..
طفلة صغيرة تركض على رمال شاطئ بحر البطين، تبني قلعة بالرمال النظيفة الرطبة، وتطارد صغار «القبقوب» التي تبني بيوتها في رمال الشاطئ الناعمة، بانتظار والدها الذي دخل البحر بحثا عن الرزق، تركض ما أن تراه مقبلا على قاربه، يترك كل شيء ليحتضنها وهي تتعلق برقبته، تحضنه بعنف، تقبله، تشم رائحته التي أدمنتها، يحملها ويعود إلى قاربه لتساعده في إنزال الصيد، أصداف البحر، أنواع من الأسماك الملونة الكبيرة والصغيرة والتي لا تزال تفتح خياشيمها وتقفلها وقد هدأ بعضها والآخر لا يزال يتقافز، تجلس بجواره وهو يفقأ الأصداف بحثا عن حبة لؤلؤ أو دانة، يجد الدانة فيشهق فرحا ويتطلع إلى السماء وهو يتلفظ بكلمات هامسة، يضع الدانة في راحة يدها الصغيرة، يدحرجها بسبابته، ثم يستردها ويدسها في مكان أمين بين ملابسه، يقبل طفلته ويحضنها وينزل بها إلى الشاطئ ووجهه مشرق بالسعادة، يحمل بقية رزقه قافلا إلى المنزل وتتبعه الطفلة وهي ترنو إلى وجهه وقد غمرتها السعادة.
amal.almehairi@admedia.ae