شاءت الظروف أن التقي بصديق وزميل مدرسة الابتدائية والاعدادية، وتحيدون زمان يوم الواحد يوصل الصف السادس ابتدائي ويأخذ الشهادة العامة، ويظهر اسمه في الراديو، وبعدين يحطون أغنية عبدالحليم حافظ ''الناجح يرفع إيديه'' طبعاً ما كنا نرفع إيدنا وخاصة في حصص الحساب والإنجليزي، بس في الشهادة الابتدائية العامة رفعنا إيدنا، المهم الواحد منا تيفان زمان، ما يوصل الإعدادية إلا وقده عاد كبير، وطرّ شاربه وأخضّر، وبدأ جسمه يشب وشوي وبيصير يعري، صديقي ترك الدراسة النظامية من الإعدادي والتحق بالدراسات التخصصية، وأنا انتظمت كتلميذ نجيب غصباً عني، لأن العصا ورائي، انقطعت الصلة بيننا وأخذت الحياة كل واحد في طريق، كان هو لاعب كرة ممتاز وعنده جوتي إديداس ويلبس نكب على ركبه، أما أنا فظليت احتياط، وطول السنة ما في واحد انكسر أو غاب، وفي نص السنة الدراسية سجلوا في مدرستنا كم طالب من زنجبار، طبعاً هاذيلا كلهم يلعبون كرة قدم أحسن من الفريق كله، والواحد منهم قهمة وأكبر من المدير، وبذلك تضاءلت حظوظي أن أنتقل من دكة الاحتياط إلى داخل الملعب· المهم انقضت على صداقة الصفوف الإعدادية قرابة 27 سنة ويزيد، والتقينا أمس، وفي مكان نعرفه منذ الصغر، طبعاً تغير وجه المدينة وانمحت معالمها القديمة، وسينما الفردوس التي كنا نشاهد فيها فيلما هنديا وفيلما إيرانيا بتذكرة واحدة اختفت، والكثبان الرملية وصناديق الجينكو والخشب بإتجاه الفرضة طارت من زمان، جلسنا في مطعم هندي نشاهد من زجاجه الحركة في شارع الميناء، كنا نضحك، ولا نصدق أن الحياة ستتغير هكذا بسرعة، وأن الزمن مر علينا بسرعة· كان حديثنا منحصراً في سنوات الدراسة، بدأته بقولي: هل كنت تتصور أنه سيأتي يوم نلقى مطعماً هندياً بهذه الفخامة وهذه النظافة والترتيب، تتذكر أبو بكر الملباري وصدّيق ومطعمهما البائس عند دوار الأشغال، تتذكر المطعم عند سينما المارية، شغل براتا وبيض وجاي حليب على الواقف، والفاهم منا كان يأكل بيض عيون أو بيضا مع طماط ويجلس على طاولة متكومن، وبعدين جاءت سينما الخضراء وعرفنا الفلافل ودجاج بو مكينة، وبعدين جاءت سينما الدورادو وشفنا لأول مرة أفلام الكاوبوي والآيس كريم في قمع باسكوت وعرفنا لعبة الفليبرز· بقيت أنا وفياً للسينما، أما صديقي فيبدو أنه تخلى عن تلك المتعة والهواية التي كانت تجمعنا في صفوف مدرسة الثقافة العسكرية، وكنا ننضرب عليها كل يوم، لأننا نأتي متأخرين ولا نكتب واجباتنا المدرسية بانتظام، فيسلخونا بكم خيزرانة في الطابور الصباحي، لكننا عقلنا حينما كبرنا، وعدينا دراستنا بتفوق· ظللنا نتذاكر أصدقاءنا القدامى في تلك السنوات، وأين شرّقت بهم الحياة وغرّبت، من اعتلى منصباً، ومن غاب في الدنيا وطرقها الموحلة، ومن أصبح جَداً، وسألني: تعرف كم تغيرت المنطقة، وشارع الميناء شو تغير؟ فقلت له ضاحكاً: تغيرت كثيراً، كنا نعرفها مثل باطن الكف، ونغوص في رملها الزجاجي، وندخلها أحياناً متلثمين من''السموم'' والناس كانوا يسمونها خور بغال، بس ما قلت لي شو صحتك؟ شو هبتك ربك بخير؟ ركبنا سيارتينا من الميناء، ورافقته حتى معسكر آل نهيان، مكان مدرستنا القديمة·· لعبنا ودراستنا ومنامتنا وتدريبنا، وكيف كنا نضع طرف كندورتنا في فمنا، ونأخذها ركضة وحدة بين هاذيك الرمول، من بوابة الدفاع لين سينما الفردوس، ودعته، وأعتقد أن كل واحد منا كانت في عينه دمعة عيّت أن تسقط، وغصة على العمر الهارب بسرعة·