عندما كنت صغيرة كنت أسمع جدتي تردد عبارات لا أفهم معناها، فإذا سألت أمي عما كانت تقصده جدتي بتلك العبارات كانت تجيبني في كل مرة : غداً تكبرين وتفهمين، وفعلاً كبرنا، أخذتنا المسافات بعيداً الى سماوات لم نحلم بها والى دروب لم نتخيل يوماً أن نطأها، أخذنا ولع البحث وغواية المعرفة الى البعيد حيث رأينا وتعبنا وحيث عرفنا وأنهكتنا المعرفة وفهمنا، ثم تمنينا أن لم نكبر ولم نعرف ولم نفهم !!
عندما بدأت أكبر سمعتهم يرددون دائماً أن الكبار حكماء، وأن الحكمة تحتاج الى زمن لتنضج، وفهمت أن الحكمة كالطبخة لابد لها من وقت ، لكنني حين كبرت عرفت أن الحكمة كالنار تلتهم نزق القلب ودهشة الروح لتهبنا عقلاً بارداً لا يتفاجأ ولا يندهش ولا يرقص فرحاً على قارعة الطريق !!
عرفت أنه كلما كبرنا قل فرحنا وتضاءلت دهشتنا، لأننا نصير أكثر حكمة واتزاناً، عندها تمنيت أن لا أكبر أبداً حتى لا أفقد نزق الفرح في قلبي ودهشتي بالأشياء والتفاصيل، وحده الطفل يفتح فمه وعينيه مندهشاً أمام الأشياء ووحده يمارس الفرح الحقيقي بعفوية مفتوحة وشهية بلانهاية، وحده يصدق حكايات الأساطير ويحلم بعرائس البحر وبالأميرة والأقزام السبعة، وحده يصدق أن هناك بابا نويل سوف يأتيه بالهدايا عبر فتح المدفأة ..ولأنه لم يكبر بعد ولم ير بعد ولم يصبح عاقلاً جداً وحكيماً بعد.. يا الهي كم عاش الفلاسفة في جحيم الحكمة.
عندما كانت والدتي تردد دائماً هذا المثل “الإنسان طير ويعايب على الطير” بمعنى أن الأنسان كالطائر ويسخر من الطيور “كنت أسال عن مغزى الجملة وكانت تقول لي كالمعتاد ستفهمين عندما تكبرين، وكبرت وسافرت وودعت وتودعت كثيراً، وكثيراً وقفت مودعة في المطارات ومستقبلة في صالات انتظار مطارات أخرى، وكثيراً ما دفعت بحقائبي وركبت قطارات وغادرت محطات، حزنت كثراً وفرحت كثيراً، عشت الوحدة وعشت أسى الفراق، وفهمت كيف أن الإنسان كطائر صغير ضعيف يحلق في كل الفضاءات ويسافر في كل الدنيا، لكنه أبداً لا يقاوم حنين العش الأول.
وكم منزل في الحي يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل
الإنسان طائر حقيقي يحلق حتى آخر الدنيا، وصباحاً يكون في أرض وبين أحبة، ثم يهطل عليه ليل آخر فإذا هو في بلاد أخرى وتحت سماء مختلفة يحتسي قهوته مع أحبة آخرين.. طائر يسخر من الطيور كما تقول أمي.
أعتدت أن أكون معها دائماً لا نفترق رغم تقادم الزمن، لذلك فعندما تسافر أمي لوحدها دون أن أكون معها، أشعر كما يشعر الأطفال، أشعر أني وحيدة رغم كثرة الناس والأصحاب، وأن الدنيا تضيق على اتساعها، وأتذكر ذلك القول الذي قرأته ذات يوم بأن الإنسان يبقى طفلاً مهما كبر في العمر.. حتى تغادره والدته، وحدها الأم تبقينا على صلة بعالم طفولتنا وتنادينا كأطفال صغار.
ayya-222@hotmail.com