···ومن النقد ما قتل
يكتب الشاعر المصري الراحل صلاح عبدالصبور، في تسعينات القرن الفائت مقالة ضمها كتابه ''أصوات العصر'' بعنوان ''شاعر عظيم قتله النقاد''، وهو يحلل فيه افتراضاً أسباب انتحار الشاعر الروسي فلاديمير ماياكوفسكي، في صبيحة الرابع عشر من أبريل (نيسان) ·1930 ويعزو صلاح عبدالصبور أسباب انتحار ماياكوفسكي الى اشتداد حملة النقاد عليه، فينتهي في آخر المقالة الى الخلاصة التالية: ''······ وفي كل مرة كان يعود الشاعر (من سفره) ليجد حملة النقاد أقسى وأشد، وصراخهم يملأ الجو بالضغينة، والتجريح، وعرف ماياكوفسكي ألا مكان له في وطنه وأن دوره قد انتهى، فانتحر''·
والفكرة هذه قابلة للنقاش، وإن كان فيها ملمس من الإحساس الشخصي للشاعر بالمرارة، واضطهاد المجتمع بكامله له، وليس النقاد وحدهم، وأحسب أن صلاح عبدالصبور حين افترض هذا الافتراض حول أسباب انتحار ماياكوفسكي في حينه، ربما كان ينظر في ذاته أيضاً·· فصلاح لم ينتحر بمدية، أغمدها في نحره كما فعل ماياكوفسكي، ولكنه ''انتُحر'' إذا صحت العبارة وصح الاشتقاق·· وأعني بذلك أنه مات مقهوراً من وطأة النقّ والحاسدين المتكومين من حوله، لقد ضغطوا كثيراً وبوحشية على قلبه الضعيف·· فمات أو ''انتُحر'' أي طُلب إليه أن يموت كما لو أنه انتحر··· والنقاد هنا ليسوا الذين يكتبون النقد بمعناه الحِرَفي، وحدهم، بل هم جملة الحاقدين والحاسدين والكارهين الذين غالباً ما يحيطون بالشاعر إحاطة الإسوار بالمعصم، ليخنقوه لا ليزينوه، وليتحولوا الى قيد، أين منه قيد الحديد·
لقد فات صلاح عبدالصبور، في افتراضه هذا حول وطأة النقاد على روح الشاعر وعنقه، أن يذكر من ناحية مقابلة، وطأة كلماته هو عليهم، وقوة كلماته التي كان أنشبها كالأظافر في وجوه كثيرة من بينها أصنام السلطة والأيديولوجيا وغباء رعاع المجتمع، وتفاهة النقاد والحاسدين، من خلال نصوص نارية له ضمنها بعض قصائده، من بينها قصيدة بعنوان ''هاكُمْ'' يهجو فيها مجتمع النقاد ويقول:
''بعد ساعة من هنا ستسيل سمنتكم المترهلة في الزقاق النظيف/ قذرين بأحذية أو دون أحذية/ تحاولون جهدكم ارتقاء فراسة القلب الشاعر/ وحشدكم يتوحش/ وسيحتك بعضه ببعض/ كقملةٍ بمئة رأس/ قد أوقف الغيظ أرجلها/ ·· ها أنا أقهقه وأبصق مرتجفاً ومبتهجاً/ أبصق في وجوهكم/ أنا متلافُ الكلمات التي لا تُقدر بثمن''·