حينما يتعلق الأمر بالورق والحبر والتنظير فإن المفكرين والكتّاب والشعراء والروائيين ـ المثقفين عموماً ـ هم أول الإنقلابيين· كتب جان جاك روسو (28 يونيو 1712 ـ 2 يوليو 1778) ''العقد الاجتماعي'' الذي شاع بين أبناء عصره باعتباره إنجيل الثورة· وظلت صيحات روسو الثورية ورقية، إلى أن قيض للثورة الفرنسية شخص مثل روبسبيير ليخرجها من بطون الكتب إلى قارعة الشوارع· بعده بقرن ظهر كارل ماركس (5 مايو 1818 ـ 14 مارس 1883) بأطروحات نظرية شغلت المفكرين والثوار بجدليتها المادية والتاريخانية، لكنها كانت ستبقى موضوعات دراسية لو لم تصبح أدوات انقلابية في أيدي لينين وستالين وتروتوسكي والدموي بيريا· الكسندر سولجنستين، الذي رحل قبل أيام، كان ظاهرة مختلفة في القرن العشرين·· أو ظاهرة القرن العشرين الثقافية/ السياسية/ الإعلامية· فمن حيث القيمة الأدبية لا يعتبر منجز سولجنستين إضافة كبيرة للأدب الروسي الكلاسيكي أو الحديث العامر بتوقيعات أعلامه الكبار: ليو توليستوي، ومكسيم غوركي، وفيودور دوستويفسكي، وأنطون تشيخوف وغيرهم·· كما أن كتاب سولجنستين الأبرز ''أرخبيل الغولانغ'' ما كان ليدفع بصاحبه إلى أضواء جائزة نوبل، لولا أن جعلت منه المؤسسة الليبرالية في الغرب وأدواتها الإعلامية فائقة القوة وثيقة سياسية ترمي بها في وجه أركان الترويكا السوفياتية ''العواجيز'' في سبعينيات القرن الماضي· ومن يعود إلى وثائق تلك الحقبة، يكتشف أن سولجنستين المنشق، الناقد الجريء للمنظومة السوفياتية، كان موضوعا إضافيا فوق أي طاولة مفاوضات تجمع الأميركيين والسوفيات، من فييتنام إلى الفضاء إلى محادثات الحد من الأسلحة النووية· وقد توجته وسائل الإعلام الغربية في تلك الفترة رائدا بلا منازع لطلاب الحرية ودعاة حقوق الإنسان حول العالم· تماما كما حصل بعد عقدين من الزمن مع موضوع أسلحة الدمار الشامل· بعد رحيل سولجنستين، ظهرت كتابات تمجيدية تعيد إليه الفضل في سقوط الاتحاد السوفياتي وستاره الحديدي· وذلك إسراف في تأويل حدث كان محدودا في منطلقه وإعلاميا في مآله· فبقاء سولجنستين داخل الستار الحديدي ما كان ليطيل عمر جمهورية طوعت طبائع الأشياء والشعوب لكي تلائم النظرية، وانشقاقه لا يمكن أن يمثل تقويضا للقوة العظمى الثانية في العالم· لقد كان انشقاق سولجنستين، ومغزاه ومفاعيله، ظاهرة إعلامية أدت غاياتها وانطفأت بعد أن وطأ الرجل أرض الولايات المتحدة· وحينما أصبح سولجنستين ناقدا للتجربة الغربية، أصاب التجاهل آراءه وشخصه· في عالم شيوعي آخر، ''العالم'' الصيني حصل شيء شبيه· تصدى طالب جامعي في العشرين من العمر، بجسده لرتل من الدبابات في ساحة تيان آن مين في بكين عام ·1989 شاهد العالم المشهد عبر شاشات التلفزيون، الذي كان مؤشرا على ثورة شبابية ذات أبعاد ديمقراطية· بعد عشرين سنة بحثت عن اسم ذلك الشاب في الإنترنت، فعثرت على الحدث ولم أعثر على الشخص· adelk58@hotmail.com