الشيخ والبحر
أقرأ رواية هومنجوي الشهيرة ''الشيخ والبحر'' أو ''العجوز والبحر'' وفق ترجمات عربية سابقة، أستعيد متعة السرد وغنى التجربة الحياتية والفنيّة لدى واحد ممن شكلوا منعطف الفن الروائي في القرن العشرين، ودمجوا على نحو خلاّق واستثنائي بين الحياة وتحولاتها الحسيّة التجريبيّة الحادة والمغامرة بالمعنى العميق، وليس الشعاري اللفظي، وبين الأدب، فكان هذا الصنيع الجمالي الفريد·
إذا كانت هذه الرواية القصيرة هي أكثر شهرة بين رواياته الكثيرة التي تنطلق من أماكن وجغرافيات متعينّة، خاض الروائي غمارها وأقام فيها بشغف حياة، على شفرة الموت، حيث الحروب الطاحنة والأوبئة والخطر المحدق من كل الجهات··· فإن كل ذلك زوّد الروائي المترحّل بحب واندفاع أكبر للحياة وملذاتها الحسيّة والروحيّة··
فكأنما هذا الشعور الملح بالعبور والرحيل يجعل الكاتب (يأكل الحياة) على غرار عبارة سلفادور دالي في أكل الجَمال··
''الشيخ والبحر'' تنطلق من (هافانا) بكوبا، هذه هي جغرافيتها البحريّة مثلما كانت ''ثلوج كلمنجارو'' تنطلق من أفريقيا·· ذلك الصياد المسّن الذي يصارع الأقدار العاتية وأمواج المحيط، ضعف الجسد وبداية تدهوره، بتلك الإرادة التي كأنما قُدّت من صخر وفولاذ·· يعتريه أوقاتاً كثيرة اليأس والضعف· سوء الطالع الذي يفترسه مثل ظل قتلة غامضين، مثل تلك القطعان من أسماك القرش التي تأتي إليه وحدانا وجماعات، بعد أن ظفر بطريدته وحظه الوفير في الصيد والحياة·
إنه يقاوم بقوة الأمل ويأسه، الصيّاد الشيخ يدافع عن حقه في الحياة والوجود، لكن تلك المفترسات الضاريّة لا تترك له مجالاً وتسلخ سمكته الكبيرة حتى العظم والنخاع·· لا يستسلم، سيحاول مرة أخرى ما دام على قيد الحياة·
تستطيع (الظروف)، أن تسحق وتدمر، لكنها لا تستطيع هزيمة روحه وسعيه الإنساني والجمالي·
قصة طويلة أو رواية قصيرة حسب تعبير النقاد، واقعية حد الرمز الشفيف العميق الغور، ورمزيّة حد الواقع العاري والصريح·· ذلك الحوار البالغ الرهافة بين الصياد والسمكة التي نازلته بنبل وجمال وكبرياء تمنى لو لم يكن الطرف المعتدي، لكن هذا هو قدره·· أو ذلك الحوار، في وحشة المحيط الجاثمة مع الطائر الصغير الذي يحطّ متعباً على قارب الصياد· ما الذي أتى به بين ضواري الليل والمحيط والبشر؟
''الشيخ والبحر'' تقطير لروح الكاتب المنتحر الذي قاوم العدَم والموت بالمغامرة والكتابة والحياة، لكنه وقع آخر المطاف بين أشداق حوت العدم الأسطوري وأقراشه الكثيرة، وإن بإرادته الحرة!
أقرأ رواية ''الشيخ والبحر'' من جديد بتوقيع الأديب المعجمي، والمترجم العراقي علي القاسمي، وهو إذ يثني على من سبقوه يفند الترجمات السابقة في مقالة طويلة حول رؤيته ومفهومه لهذا المجال·
لكني كقارئ بدت لي هذه الترجمة أكثر قرباً من ذائقتي واستقبالي لنص بهذا المستوى من الخطورة، وأكثر دقة وبهاءً·