في معطف غوغول
يبدو أن معطف غوغول الذي يقول الروس إن قصصهم خرجت منه يخفي أشياء أخرى، بعضها يخصنا نحن العرب وثقافتنا وجغرافيتنا أيضا، وهو ما يجدر بالأدب المقارن في جانبه النقدي أن يجلوه ويرينا تفاصيله· ولا أعني هنا تقنيات أسلوبه وموضوعاته وأثرها في بدايات القصة العربية، بل في الصلة الثقافية بالآخر ورؤيته· يتحدث ميخائيل نعيمة في سيرته الذاتية ''سبعون: حكاية عمر'' عن إقامته بين عامي 1905 و1911 للدراسة في السمنار الروحي بمدينة بولتافا التي ينسب إليها غوغول، ويكتب قصيدة في يوبيل غوغول المئوي يحييه فيها، كما يلقبه بالعبقري مبينا تأثره بأسلوبه الذي يصفه بالضاحك عبر الدموع والساخر المرير، منوها بقصته الأشهر ''المعطف'' و''المفتش'' و''الأرواح الميتة'' وسواها·
نعلم من قراءة سيرة نعيمة أن غوغول زار القدس وبيت لحم عام 1848 مارّا بصيدا وبيروت، وكعادة الرحالة الأجانب يسارع غوغول واصفا لأحد أصدقائه الشعراء جانبا مما تركته الرحلة في نفسه لاسيما الطبيعة وتجلياتها المتنوعة ومشاهداته البصرية والروحية معا: مقدسات فلسطين وأرضها وسهوب لبنان وجباله، ولكون غوغول عالم تاريخ وآثار وأستاذا مهتما بالتراث الحضاري للبشر، فقد خصص إحدى محاضراته لتجربة العرب في الترجمة ونقلهم المعارف الإنسانية لاسيما نموذج بيت الحكمة ببغداد في عهد المأمون، وتأكيد غوغول على أن الثقافة المكتسبة تساعد على التطور الذاتي المتحقق من خلال نزعة الشعب وخصوصيته·
لقد أتاحت علومه المتنوعة ودراسته للطبيعة البشرية التي أفاد منها في الغوص على انفعالات شخصيات قصصه ومعاناتهم في عالم قاس وشرير أن يرى أيضا الجانب الإنساني الآخر المتجسد بالتواصل والمنجز الحضاري والرغبة في التفاهم والعيش والمحبة·
ذلك بعض ما في معطف غوغول الذي خرج منه أيضا ما شعَّ على الكتابة العربية ذاتها، ورصده دارسو قصص ميخائيل نعيمة في ''كان يا ما كان''، فضلا عن ترجمة الكاتب والصحفي الفلسطيني خليل بيدس لقصة ''تاراس بوليا'' المنشورة مبكرا ببيروت (1900) وهو مترجم رائعة بوشكين ''ابنة الآمر'' في العام نفسه، وإذا أضفنا لذلك ما قرأه محمود السيد ـ رائد الكتابة الروائية في العراق ـ من الأدب الروسي المترجم للتركية ومنه كتابات لغوغول، نستطيع اقتراح المؤثر الروسي حافزا لاستلهام الكتابات المعتنية بالشخصيات المنسحقة ما يوافق الذات العربية مطلع القرن الماضي والمتطلعة للعدل والاستقلال·
في معطف غوغول المزيد: يترجم الدكتور ضياء نافع في كتيبه ''من بوشكين إلى سولجنيتسن'' محادثة مع المخرج الروسي الشهير سيرغي أيزنشتين يقول فيها إن غوغول مشغول بموضوع استحالة الزواج في أعماله لأنه لم يعرف الحب ولم يتزوج· وبالمقارنة مع تراجيديات بوشكين أراد بوعي وبدونه أن يماثل موضوعاته كوميديا، وهو ما لم تتوفر عليه القراءات العربية المبكرة لغوغول ولم تره في ثنايا معطفه·