شاعر.. لا ينام -1-
تعرفت على الشاعر عمر الخيام لأول مرة في حياتي، ذات صيف بلندن في النصف الثاني من السبعينيات في مكتبة العائلة الإنجليزية التي أسكن عندها، حينما كان إيجار الغرفة عند العائلة مع الفطور بـ”21” جنيهاً أسترلينياً، اليوم بالكاد تكفي ثمناً لسندويتش فلافل في “أيجور رود”.
عمر الخيام.. ورددتها مرات، وكأني أعرفه ولا أعرفه، لكن حينها بدا الاسم مألوفاً، لكن دون معرفة حقيقية به، فقد مر أسمه لماماً في السينما الإيرانية التي كنت أشاهد أفلامها في سينما الفردوس المتخصصة بها في ركنها القصي بجوار مستشفى الكورنيش، كما رأيته على لافتات محلات كثيرة ومطاعم وحانات وأشربة، وظهرت تخيلات لاسمه ورسمه على سجاد أعجمي، فطلبت من العجوزين الإنجليزيين أن يعيراني الكتاب، فقالا: هذا شاعر عظيم من عندكم، فارتبكت، وقلت: ولكني لا أعرفه، وأريد أن أتعرف عليه من خلالكما، فقال “مستر ديفيد”: لغته صعبة قليلاً، وتحتاج لخيال واسع، سأساعدك إن صعبت عليك الأمور، فقد قرأته مرتين، شكرتهما بسرعة، وأنزويت في غرفتي، وتأكدت “أم جيسون” - كما كنت أناديها ترجمة واحتراماً للمرأة عندنا- فضحكت مع هزة رأس تعجباً، ولكنها قالت: أعتز باسمي “كيت”، وأحب ابني جيسون- أنها لن تكلف نفسها مراقبة ساعة وصولي ليلاً كعادتها، توقفت عند ذلك الكتاب محاولاً فك كلماته أولاً، ثم محاولة الغوص في عميق معناه الشعري، كما كان يوصينا أستاذ اللغة العربية الذي لم يذكر لنا مرة اسم هذا الشاعر، ولا شيئاً من شعره، ممنياً النفس حين العودة للديار الشروع في البحث عن عمر الخيام “العربي”.
لكنني نسيت وتناسيت وألهتني الحياة بجديدها عمر الخيام، حتى ذات صيف لندني آخر، في أكبر احتفائية في لندن بالمنجز الحضاري الإنساني للعرب والمسلمين، ويومها وجدت الخيام حاضراً وبقوة، في مجال الرياضيات والموسيقى والشعر والمعادلات والفلك والفلسفة، وهو وجه كان غائباً عني، فتساءلت يومها: كيف يغيب هذا الشاعر “العالمي” عن مناهج الثانوية، وخاصة فرعها الأدبي؟ ويحضر كثير من الشعراء، القوّالون والسجّاعون، مهمتهم الوحيدة في الحياة إيجاد مترادفات لقافية قصائدهم المحنطة، فتذكرت الفلسفة وما تفرضه من أسئلة محرضة، ومشاغبات للرأس والفكر، وكيف يكرهها العرب المعاصرة، وكيف مجّدها وطورها العرب والمسلمون المستنيرون من عاربة ومستعربة.
اليوم حينما أتذكر ذلك الصيف اللندني، وتلك المكتبة للعجوزين الإنجليزيين، وتلك التظاهرة الإسلامية الكبيرة التي لن تتكرر في عاصمة عالمية مثل لندن، وتلك الأسئلة التي تحركها الذات، أقول الفضل لكل ذلك، وإلا لظلت صورة عمر الخيام مغبشة، لا هو عربي، ولا هو بفارسي، ما هو إلا شاعر متهتك وزنديق، وغابت أوجه النور والمعرفة والصيت الإنساني الكبير لهذا الشاعر الذي يحب الليل، لكنه قلما ينام! وغداً نكمل..
ناصر الظاهري | amood8@yahoo.com