المنتمي
تحرج سيرة جوزيه ساراماجو، الفكرية والسياسية، أولئك الذين ندب نفسه للدفاع عنهم. عن حقهم في الحياة والوجود. فهذا المبدع البرتغالي، الذي يمعن في التدليل على أصله العربي الأندلسي، لم ينشغل كثيرا بحسابات الربح والخسارة، والاتهام والإدانة، وتوازنات السلطة والقوة، ومعايير الاعلام وتوجهات الرأي العام.. تبنى ساراماجو آلام الضحايا فيما كانوا هم مستغرقين في جدل مفاهيمي حول صراع الوجود أو الحدود، التسوية السلمية أو الاستسلامية، رفض التطبيع أو القبول به، تأييد أسطول كسر الحصار أو تسفيه منطلقاته وغاياته.....
ميزة ساراماجو، ومن هم مثله، أنهم يجردون ما يؤمنون به من إضافات الزمن والبشر وتفاعلات المادة. تستقر القضايا عندهم في مبتدئها الجنيني أو الهيولي، فيأتي التزامهم بها وتعبيرهم عن هذا الالتزام شبيها بالتسليم الإيماني، أو نوع فريد من الطهارة الفكرية.
الميزة الثانية لسيرة صاحب رواية “بالتازار وبيلموندا”، هي أن مرتكزاته الفكرية قد ولدت معه، ورافقت نشأته وتكوينه. لم يكتسبها نتيجة تجارب أو تحولات. بعكس ما حدث مع الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي، على سبيل المثال، الذي سلك طريقه إلى الإسلام عبر مسيرة طويلة، وتجارب واختبارات، بدأت بالماركسية ومدارسها، وانتهت إلى التصوف وشطحاته. وإذا كان ساراماجو لم يصل إلى الإسلام، تأسيسا على عدم اعتنائه بفكرة الدين لأسباب كهنوتية، فإنه استطاع أن يمتصّ من الوعاء الحضاري للإسلام والمسيحية ما يؤسس خلفية لنتاجه الابداعي. ولعل رواية “الطوف الحجري” هي الأكثر التصاقا، بالمفاهيم الحضارية والسياسية لساراماجو. فهو يفترض في الرواية صدعا في جبال “البرانس” يتسبب في انفصال شبه الجزيرة الأيبيرية (إسبانيا والبرتغال) عن القارة الأوروبية. هنا تتبدى واحدة من اعتقادات ساراماجو، الذي استعار أسلوب الواقعية السحرية اللاتيني للتعبير عنها.
ميزة الأديب البرتغالي الراحل، الثالثة، هي أنه كان يقاتل في “الأرض الحرام”. بدا بوقوفه إلى جانب العرب، وإدانته لحروب الإبادة الإسرائيلية ضدهم، ووصفه لمجزرة جنين بأنها تشبه مجازر النازيين في معسكر “أوشفيتز”.. بدا وكأنه يخترق قوانين الحظر الدولية. فتلك منطقة ينبغي أن تظل معزولة عن تفاعل النخب الثقافية الغربية. ترفض تلك النخب الحرب بالمطلق. ترفض الاستخدام المفرط للقوة. ترفض سلوكيات قهر الإنسان في عمومياتها. لكن عندما يرتبط ذلك الرفض بالتوصيف، تخالطه إذاك عوامل أخرى.. والملاحظ أن الندوب التي تركتها الحرب العالمية الثانية في الذاكرة الأوروبية، قد وجدت متنفسا لها في الأدب والفنون. ظهر أدب الهجاء للنازية والفاشية، كظاهرتين أوروبيتين. وهو ما حدث، بعد ذلك في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، بما سميّ الجرح الفيتنامي في الأدب والسينما الأميركيين. قرأنا، مثلا، روايات لتيم أوبريان، وجون ديل فيشيو، وبوي آن ماسون، ولاري هاينمان وغيرهم يتلون فيها فعل الندامة عن آثام فييتنام.. لكن الندم يتوقف عند حدود المنطقة العربية. فالصراعات فيها الناتجة عن مبرر استعماري، أو زرع استعماري، أو إدارة استعمارية.. تبقى في الذائقة الغربية ضجيجا بلا صدى.
جوزيه ساراماجو استثنائي في فكره وهواه.. في انتصاره للألم الإنساني.. في نقده المرير للتعالي والعنصرية في تجليهما الغربي. والمفارقة أنه انتمى عنوة إلى الضحايا، فأعرضوا عنه.. كأن تلك المنطقة التي يقف فوقها، للدفاع عن قضايانا هي “أرض حرام”، تمكن هو من اختراقها، وأهملها المعنيون بها، عجزا أو إهمالا، أو بتضافرهما معا.
adelk58@hotmail.com