لم تلجأ سيدة عجوز مثلك إلى الفناء؟ كي تجوب قدماك مدينة تسود العالم مثلك لا يتألم وحوله طوق من المستشفيات، أو مثلك لا يمرض بصورة مخيفة ومؤلمة، وجسدك يسيل دمه يطفح بما تبقى من خدش، على الجلد تورم.. ربما تعمقت الجروح أكثر وتمدد الجوع في بقاياه التي تبدو هشة. يبدو صوتك من جراء الألم قد تهتك، يبدو الشارع حاملا في جعبته هدوءا غير اعتيادي، حتى أتت فتاة كانت تمارس رياضة الدراجة فتوقفت وأخرجت ما لديها من الطعام وقالت بطريقة لا تخدش سنها: هذا بعض من الفواكه حملته من أجل الطريق ولكنه لك يا سيدتي.. هذا ما يعرف عن الشعب الأميركي، وما أكدته الفتاة في عطفها الجميل على هذه السيدة. فهو شعب محب للحياة والإنسانية، ولكن الحيرة تنتاب الزائر وهو يرى سيدة بهذا العمر تجوب الشارع بحثا عما يسد رمقها.. لا شك أنه أمر يدعو إلى التعجب ويسحق كل المبررات ويسقط كثيرا من الشعارات.. أمر فاقع اللون والدلالات يرسم على الجدار الأبيض ويرفع صوتا بأن المعايير السياسية أصبحت أعلى بكثير من الهتافات الإنسانية، وأن حقوق الإنسان أخفقت كثيرا في هذا المحيط من العالم بالذات، وهو محيط يجهر بأنه مكمن بناء الإنسان والحرية. في الحدائق القريبة من البيت الأبيض تفد جموع «الهوم لس» لتستريح من تعب الشوارع. يفترشون الحدائق قبيل لحظة النوم. كل يفتح علبة عشاء اكتسبها بطريقة ما. هذه الحدائق مأواهم، يسكنونها حين يغيب البشر عنها وتصبح خاوية في حضرة الليل، تنتظر مجيئهم فحالتهم لا تدعو إلى الاشمئزاز بقدر ما تحمل الصورة الأخرى لعملة الحياة.. هم هؤلاء من أشقتهم الحضارة الغربية والأميركية وممن بترتهم من المجتمع، هي وحدها الحدائق تسمع أنينهم، وتبحث في شأنهم، وتعرف خاصيتهم.. هم يسلكون دروب الضياع إليها بعد مرورهم اليومي على أبواب المحال الفاخرة، لكنهم لا يعيرون صيحات الموضة والأناقة اهتماماً، هم فقط يحملون رسالة للمدنية ومثلهم في سائر المدن والقرى. ما يلفت الانتباه أن الطيور والحمام تنتظر حضورهم من أجل مشاركتهم بقايا الطعام، وخلافا للسائد، فإن أحدهم عازف فهو لا يفد إلى الحدائق مثلهم وإنما يتخذ الأرصفة وزواياها الساكنة بيتا.. فالعازف يذهب إلى المطاعم السريعة من أجل شراء العشاء ويرتشف قهوته قبل أن يذهب ليخلد إلى زاويته، وآخر يسترخي متخذا من الرصيف بيتا، ولديه جهاز كمبيوتر محمول، ويدأب على التواصل المجتمعي عبر الوسائل المتاحة، فهو يتخذ من حالته مدخلا لكي ينشر صداقاته حول العالم.. هو إنسان قبل أن يكون دمية وسط الشارع.. وقد يتواصل مع الجهات المعنية من أجل إيجاد حل لمعضلته.. فالمدينة التي تدأبت على مساعدة العالم لا يمكن أن ترى شريحة من البشر تستجدي وتتوسل وسط الطرقات وعلى الأرصفة.. إنها مأساة بحق وحقيقة.