قضيت الأيام الماضية في مدينة اسطنبول التركية، وهي المرة الأولى التي أزورها ولكنني أظنها لن تكون الأخيرة، فاسطنبول تحفر عميقاً في وجدانك، كما وتنقر على أوتار كثيرة، موقظة الكثير من أحاسيس البهجة وتفاصيل الفرجة وصفحات التاريخ، هذا التاريخ الذي لا يزال يشكل حبل السرة الذي يربط اسطنبول- وكل تركيا- بماضيها وحاضرها ومستقبلها كمركز لآخر الخلافات الإسلامية وكعاصمة لسلاطين بني عثمان، الذين جعلوا منها شرفة واسعة تطل من خلالها قصورهم المنيعة وقلاعهم ومساجدهم على أرض أوربا التي كانت ذات يوم ملعبا لخيولهم وانتصاراتهم، فصارت مهوى أفئدة أحفادهم وغاية أمانيهم أن يصيروا جزءاً من اتحادها العتيد.
أول الملاحظات التي خطفت انتباهي هو ذلك الطوفان البشري من الخليجيين الذين يملؤون الفنادق الفخمة والأسواق والطائرات القادمة من دول الخليج، ولا يحتاج الأمر إلى استفسار، فالسياسة حاضرة كما التاريخ والجغرافيا، و”مصائب قوم عند قوم فوائد”، لذا فالأتراك اليوم مدينون لقسوة المناخ في أوروبا، وللثورات العربية وللأوضاع الأمنية المتردية في كل من مصر وسوريا ولبنان التي لطالما كانت محجات السياحة الخليجية طيلة العقود الماضية، اليوم صارت تركيا الخيار السياحي الأول خليجياً في هذه الفترة من العام، وهو ما حرك الكثير في مياه الواقع الاقتصادي التركي، الذي كان متعطلاً ككل اقتصادات العالم بسبب الأزمة المالية العالمية!
تركيا بلد سياحي من الطراز الأول، المسافة إليها لا تستغرق أكثر من أربع ساعات، طقسها جميل وأرضها تعج بالخيارات، فالتاريخ حاضر برموزه والخيال ماثل بأساطيره، هواؤها عليل وطعامها لذيذ، وأما الفرجة والمرح والتسكع وقضاء الوقت بشكل سلس فلن يحتاج منك إلا ارتداء معطف خفيف والخروج إلى أحد الشوارع الغاصة بكل شيء ابتداء بالمتاجر وجموع السائحين وانتهاء بالمتسكعين والشحاتين الذين سيرددون على مسامعك الكثير من عبارات استدرار التعاطف والمال طبعاً، فما عليك سوى أن تتماسك قليلاً ولكن ليس دائماً! هناك مواقف لا يمكنك أن تكون متماسكاً ومحايداً لا تبدي تعاطفاً إنسانياً تجاهها، فقد يبدو أمراً مقبولاً أن لا تصدق كل امرأة في مقتبل العمر تمد لك يدها وبإلحاح مشيرة إلى طفل بين ذراعيها، أو أن لا تتصدق على شاب يملك جسد مصارع مدعياً أنه لاجئ سوري “معتر”، لكنك حين تمر بطفلة لم تكمل عامها السابع ربما تفترش الأرض وتعزف لحناً نشازاً على آلة موسيقية متهالكة طلباً لبعض المال من المارة فإنه لا يمكنك أن لا تضع في إنائها تلك الفكة التي تبقت في جيبك نهاية اليوم، فإن قلت بأن الطفلة جزء من عصابة تستخدم الأطفال في أعمال التسول، فإن ضميرك لن يسمح لك بأن تمر على ذلك الشاب الذي يستمتع بالتقاط صورِ بُؤسِها واعداً إياها إن تركته يصورها أنه سيعطيها بعض الليرات، لكنه بعد أن انتهى منها سخر ومشى كأن شيئاً لم يكن ليتباهى بعد قليل بتلك الصور “العظيمة” على صفحته في تويتر أو الفيسبوك!
راقبت “لا أخلاقية” ذلك الشاب، ودخلت معه في حوار صارخ، فاجأني حين قال لي “أنا حر أصورها كما أشاء” قلت له ومن أعطاك هذه الحرية؟ هذه طفلة ليس من حقك استغلال بؤسها، فالمسألة لها جانب إنساني، فهي ليست معلماً أو بضاعة؟ فكررها ثانية أنا حر أصورها كما أشاء، ثم أضاف: “أنا سائح ولا يستطيع أحد منعي هل تستطيعين” كان وقحاً بما يكفي، بحيث لم يكن من الممكن ردعه أو استنهاض إنسانيته، فتركته وأنا أفكر في مفاهيم الحرية كما يفهمها البعض!!
ayya-222@hotmail.com