«أنا دايما لو أدندن لو أصفّر لو أثرثر في وقت فراغي»، بلهجته العراقية المحببة يخبرني أحمد سعداوي صاحب «فرانكشتاين في بغداد» الرواية التي حازت جائزة البوكر العربية هذا العام وهو يستند على سياج كورنيش أبوظبي، «نحن كائنات نحتاج أن نخترع طرقنا الخاصة لنبقى في اليقظة حتى لا ننسحب إلى ذواتنا عميقا» يضيف وهو يتأمل المدينة مساءً ويقول «لو بس عندنا أمن في بغداد» وأشعر أن الأمن هو الثروة التي نمتلكها في الإمارات دون أن ندرك. اعتدنا عليها فظننا أنها متاحة بشكل طبيعي. يحكي لي خالد خليفة صاحب رواية «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» المرشحة لقائمة البوكر القصيرة والذي سعدت بصداقته الانسانية الصافية عن طاولته الخشبية التي صممها بنفسه، أشياؤه في الشام، إبريق قهوته، أدوات المطبخ، أصدقاؤه الباقون هناك والراحلون عن هناك وعن الأرض كلها. حكى لي عن الحياة في دمشق حتى أوشكت أظن أن لا موت يحدث فيها. يتحدث بحنان إنساني يوشك أن يغمر البشرية. تحدث عن شوقه للعوده إلى بيته الذي يألفه. ألا تخاف القصف؟ «اسأله» فيجيبني بأنه كلما اقترب الإنسان من الموت كلما كان أقل خوفاً منه. وأتخيل الموت يقترب ويصير كائن معلوم، والمعلوم لا نخافه. «مالذي يسعدك؟» اسأله. فيجيب ببساطة وبدون تردد «الكتابة». يخبرني سعداوي عن التفجير الذي وقع في مقهى بغدادي كان قد غادره للتو مع صديقه. أقول له «حمدالله على السلامة». يعدل ياقته وأنا أوشك أن ألتقط صورة تذكارية له ويقول ضاحكاً «أنا نجم مستجد» وهو يحاول أن يجد وقتاً للنوم والراحة بعد إعلان فوزه. يهديني الصديق الكاتب اللبناني جبور الدويهي كتابه الأخير ويكتب في الإهداء «إلى مريم أجمل اكتشافات أبوظبي» وقبل أن أفرح بجمال الإهداء يوضح أنه لم يتعرف على غيري أساسا. يعني مثل الطالب الذي يحصد المركز الأول لأنه الوحيد في الفصل. ونضحك على الدعابة. يحدثني عن بيروت وعن لبنان القابض على الحياة على الرغم من كل شيء. أطلب من الصديق «الفنان» محمد المزروعي أن يلتقط لي صوراً تذكارية مع آسيا موسوي، ناشرة دار الاختلاف الجزائرية، ونحن نتذكر أن سنة مرت منذ آخر مرة التقينا في المعرض، يغيب شريكها وصديقنا الروائي الجزائري بشير مفتي، كما يغيب صديقنا الناشر اللبناني بشار شبارو صاحب دار ضفاف فتجلس آسيا في المنتصف بين «الاختلاف» و«ضفاف» وهي تحكي عن التوأمة الروحية بين الدارين، وشغف النشر، وعشق الكتاب. تمتلئ دار «ورق» للصديقة الكاتبة عائشة سلطان بالمهنئين والأصدقاء والمشترين، أتأمل شعار الدار وأنا أتذكر حين كانت فكره فصارت واقعاً متجسداً بمنصة جميلة في معرض أبوظبي. وأفكر في الإرادة القادرة على تحويل أي فكرة لواقع، وفي أن كل شيء ممكن إذا أردته أن يكون كذلك. ما الذي تجلبه لنا الكتابة؟ تجلب لنا معرفة أناس من معادن خاصة. أناس ما كنا لنلتقيهم لولا نعمة الكتابة. أناس يسيرون في الحياة بعجينتهم الأولية الأصلية مهما ارتدوا عليها من ملابس حديثة. لم تلوثهم عوادم المدنية، والأدخنة التي ثقبت الأوزون لم تتمكن من ثقب أرواحهم. بقيت كما هي قوية متماسكة عتيدة عنيدة في وجه كل التلوث الذي حل بالأرض. أرواح الكتُاب الطاهرة النقية تتشبث بأصالتها، بالطين في جوهره، وبالسماء في الأمل الذي تبثه على حزن الطين الأزلي. وما الذي تجلبه لنا معارض الكتب؟ تجلب لنا الأصدقاء من كل الأرض، فنلتقيهم لنستعيد إحساسنا بألُفة العالم. وتجلب لنا كتباً نتذكر بين أوراقها أننا كنا نحلم يوماً بالكتابة. وها نحن اليوم نرفع قدماً ونضعها بحذر على الطريق.. لعلّنا نخطو. Mariam_alsaedi@hotmail.com