لم تعد عبارة الورّاقة، أو الورّاقين، تكفي للدلالة على الكتبيين.هما عبارتان، تكاد تشتق ـ في المعنى والدلالة ـ الواحدة منهما من لدن الأخرى. اليوم تخطت مهنة الكتبيين، عالم الوراقة والورّاقين إلى مديات متسعة ومفتوحة. يعيش الكلام بين دفتي كتاب، أو ينبض بسحر الإلكترون، يزدهر في الشبكة العنكبوتية، ويحلق عبر برامج القراءة التي توفرها أجهزة الكومبيوتر، والأجهزة اللوحية، وسائر الوسائط الذكية. لكن في كل الحالات، وفي كل الصيغ، فإنه في البدء كانت الكلمة. كانت صيغة التواصل والتعبير والتفكير والإبداع والحكمة. هذه الكلمة تتألق اليوم في أبوظبي، عاصمة الكلمة من الخلل أو الزلل أو الكتمان أو البتر.. تكتسب الكلمة من أبوظبي، هذا النوع من العصمة، وتكتسب أبوظبي من الكلمة وهج الثقافة والإبداع.. وبهذا المعنى، يجتمع تحت سماء المدينة، وفي فضائها الرحب، مئات المبدعين من كتّاب، ومؤلفين، ومترجمين، وبحّاثة، وخبراء، وشعراء، وألوف الناشرين ممن يحترفون صناعة الكلمة وتيسير الكتاب، وعشرات الألوف من القراء والمهتمين. عرس واحد، وموسم دائم، تهيؤه أبوظبي للكلمة، من خلال معرض أبوظبي الدولي للكتاب، الذي يبلغ هذا العام دورته الثالثة العشرين، فارضة إعادة النظر في بعض المفاهيم، التي أضحت بمثابة المسلمات في الفكر العربي. منها، مثلا: هل ما زالت تلك القاعدة التي سادت لعقود، ومضمونها إن القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ.. هل ما زالت قاعدة ذهبية، لا يضرب حوافها الصدأ؟ سؤال يتعلق بالأساس، بالمركزية الثقافية، وجودها ودورها كما كان، وكما هو الآن، وما سيؤول إليه في المستقبل.. وبمعنى آخر، هل ستبقى الأطراف السابقة على الهامش الثقافي، أم إنها تقدمت وستتقدم إلى قلب المركز؟ وهل الأمر هو من حقائق التاريخ والجغرافيا والفكر، أم أنه لعبة تبادلية تفرضها الظروف والمتغيرات؟ ومنها، مثلا: هل ما زال الموقع العربي من المركز الأوروبي، يقوم على قاعدة المرسل والمتلقي، المنتج والمستهلك، المتن والهامش؟ لطالما جاء الأوروبي إلى هذه المنطقة، غازيا، أو مستشرقا، أو مستكشفا، أو بائعا.. أما آن الوقت لكي يأتي متفاعلا، يقبل حقائق هذه المنطقة ويفهمها ويتفهمها ويحاورها، باعتبارها ثابتا غير قابل للذوبان أو السلخ أو الإستلاب؟ وبالمقابل، هل يتجاوز العربي/ المسلم خشيته من الآخر، المدنس، العدو بالفطرة والطبيعة، ويجد بالتالي «كلمة سواء» يلتقيه عندها ويحاوره بها ويوسع معه مساحة المشتركات الإنسانية تحت ظلها؟ ومنها، أيضا: هل ما زالت الكتابة، حرفة التهلكة، والصراع الدائم ضد تجاوزات الرقيب ومقصه البتّار؟ أم أن حقائق العصر ومكتسباته التكنولوجية قد أحالت قاصفي الكلمات على التقاعد؟ ألم تحل صيغة الـ eBook معضلة الأفكار المخنوقة فوق الصفحات المطبوعة؟ تلك قضايا، أصبحت منذ سنوات من انشغالات معرض أبوظبي الدولي للكتاب، باعتباره مناسبة دورية احترافية للعاملين في هذا القطاع والمهمومين بقضاياه. قدمت فعاليات المعرض في السابق وتقدم في الدورة الحالية، دراسات وتوصيات، حول معضلات الفكر، ومشكلات الكتاب، ومعوقات صناعة النشر، ومصاعب الترجمة. وفر المعرض فضاء صحيا للقادمين من جهات الأرض والفكر، متحررين من عقد المركز والأطراف، الهامش والمتن، الإباحة والإستباحة.. ومع ذلك، وربما بفضل ذلك، تبقى الورّاقة، حرفة التوهج والإحتراق، فيصفها أبو حيّان التوحيدي بـ»حرفة الشُّؤم»، بينما ينصفها القاضي أبو عبيد علي بن الحسين بن حرب البغدادي، الذي نَدم على ترك الوراقة بعد تكليفه بالقضاء، بقوله: «مالي وللقضاء، لو اقتصرت على الوراقة ما كان حظي بالرديء». adelk58@hotmail.com