يلتزم الصانع المعني بتقديم منتج حساس كالسيارات والطائرات -مثلا- باستخدام معادن عالية الجودة معالجة بتقنيات معقدة جدا، ناهيك عن الاختبارات الطويلة للتأكد من متانتها وقدرتها على القيام بوظيفتها تحت ظروف مختلفة ودون تلف. هذا الصانع يدرك تماما أن إهماله لأي مرحلة من المراحل السابقة في عملية اختيار المعدن المناسب (ولو كان سيستخدم في صنع برغي لا يزيد طوله عن السنتيمتر بل وأدق من ذلك) وتأهيله ليكون في مكانه المناسب، يمكن أن يؤدي إلى كارثة فعلية تذهب فيها حياة الناس. ولذا تلجأ المؤسسات الجادة إلى صناع حقيقيين لهم نفس صفات المعدن ولكن بمعايير البشر، أي أن يمتلك المؤهلات والخبرات والتجارب والنجاحات التي تسمح له بالحصول على هذه الوظيفة أو تلك. مع التأكيد أن ذلك يجب أن يكون ليس لأجل الصانع ولمصلحته، بقدر ما هو لمصلحة ملايين المستخدمين لمنتجه. لا يوجد عمل صغير وآخر كبير، فكل الأعمال يكمن تحتها مركز الكون، كما قال المعماري «سنان» - يُصنف أحد أعظم عباقرة الفن المعماري في العالم - المنتشرة أعماله في تركيا والتي صمدت شامخة رغم الزلازل والتغيرات المناخية. وسر الكون عند المعماري «سنان» لا يكمن في موقع المنشأة فقط، وإنما تحت كل قطعة خشب أو لبِنَة طوب أو قطعة رخام أو نقش على جدار، اشتغل به وجعل عماله يلتزمون نهجه. يكمن سر الكون تحت كل تفصيلة ولو بدت لعقول - الُتفَه - عابرة هامشية غير مهمة في سياق إنجاز العمل الضخم. ولهذا السبب تُخلد أعمال البعض، وتُعمد سيرهم ليصبحوا نماذج لآخرين يأتون بعدهم بأجيال. لو كان الأخوان «رايت» - مخترعا الطائرة - غير مؤهلين في اختيار نوعية المعادن المطلوبة في البراغي المستخدمة لتثبيت الجناح، وكان «سنان» غير مؤهل لاختيار عماله والمواد الخام التي كان يجلبها من أقاصي الدنيا، هل كان لنا أن نتحدث عنهم الآن وعن أعمالهم؟! إسناد الأمر إلى أهله يعني تكليف الأمر لمن هو جدير بحمل الأمانة، ممن امتلك العلم والمعرفة المناسبة لإنجاحه. إن إسناد الأمر لأهله يضبط المنظومات، ويُسير العمل ويمنع البلبلة والفشل، ويحد من هدر الوقت والجهد والمال، وُيقدم القدوة الحسنة والنموذج الأمثل الذي يصبح فيما بعد منارة لأجيال، يعلم الله وحده ماذا ينتظرها! والعكس أكثر سهولة، وليس أدل من مقولة: «إذا أردت إفساد أمر، فقط.. ولِّ عليه من هو ليس أهلا له».