يعتقد البعض أنك حين تكتب في أية صحيفة، وخاصة إذا كانت صحيفة حكومية، فلابد أن تكتب عن المشاكل، عن الهموم، المضايقات، الإحباطات، الزحام، غلاء الأسعار، عن تردي قيم العلم في نفوس الجيل الجديد، عن المثقفين المتناقضين، الأطفال الذين لا يذهبون للمدرسة بل يهربون إلى بقالة الحي، عن مشاكل الإخوان في مصر ومحاولات نزع فتيل التوتر في أوكرانيا و ...... وعن أشياء كثيرة تشبه قائمة الوجبات في المطاعم الكبيرة، جاهزة ومعروفة ومجربة، ومضمونة النتائج، بينما في الحياة أشياء كثيرة ممتعة علينا أن نعبر عنها برحابة أكثر وهي تهمنا وتعني الكثيرين منا رغم بساطتها، كتبت مرة عن وفاة قط صديقتي الذي غير حياتها فجأة هي التي عانت الوحدة والاكتئاب بعد هجرتها للندن، فكتب أحدهم يصف ما كتبت بتضييع وقت القراء وبعدم الشعور بالمسؤولية، لم أرد عليه لأنني تفهمت رأيه حتى وإن لم أتقبله، فالعمل في الكتابة تدريب يومي على عملية قاسية جدا هي الانصات لآراء الآخرين بصبر! في الحقيقة هذه واحدة من القضايا التي علينا الحديث فيها، فحين يكتب أي كاتب في صحيفة معينة فهو يفعل ذلك بناء على طلب تلك الصحيفة، هو لم يقتحم الصفحة ولكنه دعي بمنتهى الاحترام ليكتب تقديراً لقلمه، وهذا أمر تشكر عليه أي صحيفة تقدر فكر وأقلام مواطنيها، بقي أن يعرف بعض القراء أن الوصاية بكل مساراتها أصبحت من تذكارات الماضي، وأنها لم تعد موضة هذا الزمان، لا وصاية للجريدة على الكاتب ولا وصاية للكاتب على قرائه كما أنه لا وصاية للقراء على الكاتب، الفكر مجرى حر يسير قدما باتجاه فضاءات اكثر حرية، يحتاج إلى مختلف الطروحات، واختلاف الأفكار، وتجدد أساليب السرد وتقنيات الكتابة، والموضوعات بلا شك! لا يمكن لأحد أن يطالب كاتب أن يكتب طوال عمره عن حوادث السير وشقاوة طلاب المدارس واحترام المعلم وارتفاع أسعار البيض والحليب ونتائج المنتخب الوطني و...، هذه أخبار يمكن للمحررين الميدانيين نقلها والتعليق عليها وكتابة تقارير حولها ويمكن لقسم التحقيقات الاعتناء بإثارتها استهدافا لتوعية المجتمع والناس، لكن أن نضع كاتبا ما في قالب الأخبار المحلية أو يضع هو نفسه في هذا القالب لأنه يكتب في صحيفة حكومية، فأمر لا يكاد يكون مفهوما أو مقبولا ! يفترض بالكاتب أن يكتب كتابة تشبهه، تعبر عنه وعن أفكاره وقناعاته وتعتني بما يحصل حوله في هذا العالم الوسيع، ولا بأس أن تتقاطع هذه الكتابة أو الموضوعات التي يكتبها مع هموم الناس ورغباتهم وما يفكرون فيه، فهو في نهاية الأمر أحد هؤلاء الناس وهو يكتب لهم ويفكر بصوت عالٍ نيابة عنهم، لكنه في كل الأحوال يجب أن يقود القافلة وأن يعلق الجرس ألا يكتب كردة فعل ولا معلقا على حدث بطريقة معلقي مباريات كرة القدم، عليه أن ينطلق من الحدث الذي يراه للرؤية الواسعة التي يريد أن يتشاركها مع الآخرين، أن يرسم الشجرة ليدل على الغابة، وأن يمسك بالقلم ليرسم سماء أخرى وليس فصلا يسجن فيه طلابا أو مكتبا يسمر فيه بعض الموظفين السادرين في شكواهم من المسؤول والمدير وال....، يفترض به أن ينقل الحوارات والاهتمامات إلى ما هو أوسع وأكبر إنسانيا حتى يبدو كمن يكتب للناس في كل الدنيا وليس قراء الصحيفة أو مقاله فحسب ! إن لم نغادر جلودنا فستمزقنا الجغرافيا، إن لم تتسع رؤيتنا للعالم فلن نصير شيئا مذكورا، علينا أن نخرج من هذا التردد الذي نعيشه ونحن نطرق الموضوعات البسيطة والصغيرة والمكرورة، ولأننا نعرف علينا أن نقول هذا الذي نعرفه لكل الناس، نحن نقدم مجتمعا وجماعة إنسانية وتجربة متكاملة حين نكتب وحين نؤلف وحين ننشر، وهذه عوالم تحتاج كثيرا من المغامرة والإبداع والهروج على سطر الكتابة المرتب أكثر مما ينبغي ! ayya-222@hotmail.com