زمن المجنون
في المحاورات الإذاعية العشر بالغة الأهمية التي أجراها فرنسيس كريميو مع أراغون عام 1963(الترجمة العربية لقيس خضور) يجري الحديث عن الزمن في القصيدة والرواية، وفي عمل أراغون الأشهر “مجنون إلزا” خاصة.
يلاحظ أراغون غياب صيغة المستقبل عن الزمن في اللغة العربية فيتم التعبير عنه بوسائل أخرى. ذلك جعله يتساءل عن النتائج التي يخلقها غياب المستقبل على الزمن نفسه، وكيف يتكون تصور للزمن لدى شعب يفتقد صيغة الفعل في المستقبل.
عوضاً عن ذلك يجعل أراغون مجنونه القادم من غرناطة بعد أربعة قرون ونصف من سقوطها يعيش زمناً آخر: كله مستقبل لكنه افتراضي تماماً، حتى في مشهد محاكمته حين يسأله قاضي القضاة عن حقيقة المرأة التي يعتقد أنها موجودة وغير موجودة يجيب: إنها (سوف) توجد، وعدم رؤيتك لها الآن لا يعني أنها غير موجودة!
هنا سيتداعى الجنون ليحدد الزمن الذي لا يلحظه إلا مجنون إلزا، قيسها النجدي والغرناطي والفرنسي. لقد اختلطت الأمكنة باختلاط الزمن وهو ما يسميه طبيبه مرض الزمن نفسه لدى المجنون، فنحن ـ البشر ـ نفكر خلافاً للمخلوقات بزمن مطلق يستوعب كل ما حدث لنا وما سيحدث، وذلك يعارض ما يدعوه أراغون التصور السامي للزمن وتعاليه على الوقائع، ولتأكيد ذلك يسترجع أراغون ما كتبه على لسان زيد مساعد المجنون في مذكراته مستشهداً بوقع الزمن على حياة كلب يعيش عشرة أعوام فقط لكنه يُعد هرِماً لأن كل عام عنده يساوي سبعة لدى البشر لذا فهو يتألم سبعة أضعاف ألمنا عند الجوع أو المرض، وهكذا يبدو زمن الطفل فالساعة لديه أطول مما هي لدى البالغين، أما المجنون فإن حريته قائمة على هدم فواصل الفعل فما يحدث الآن وبعد قرن ممكن التجاور في وجوده الافتراضي فيأمل مجنون إلزا إمكان وجودها القادم من غياب صيغة المستقبل عن الفعل العربي وتحققه بالواسطة.
تساؤل أراغون عن تصور المستقبل لدى شعب بلا زمن مستقبل يقع في حيز ألمنا المعاصر كعرب عقلاء أكثر مما يلزم لنهضة غائبة أو مؤجلة، لكن المرايا التي يستخدمها مجنونه لاستكشاف الزمن بحثا عن إلزا القادمة تستوقفنا لأن أهمها هي مرايا الكلمات التي يبني بها الشعر زمن القصيدة ويخلق زمنه بعيدا عن تقويم البشر ومضاعفات إحساسهم بالزمن الذي يدرك المجنون وحده إمكان وجوده المتناقض غيابا وحضورا.
يمسك أراغون بلا زمنية المستقبل ليجعله ممكنا في (عقل) المجنون الذي يوازن بين زمنين فيحيا حياتين: واقعية ومتخيلة ويذهب بعيداً في وهمه ما دامت اللغة ذاتها تحكم على مصيره القادم بالفناء فيبادر مصيره بما تمتلك يداه: يقيم عالماً بديلاً في خياله يوازي الواقع ويعارضه ولا يعترف بحدوده.
تلك الوصفة التي مزج فيها أراغون الماضي والحاضر والمستقبل ربما ستكون علاجاً للعيش في زمن قادم حِكْمته في أفواه مجانينه العقلاء