مدينة دالي
المدينة التي حلم بها سلفادور دالي وتحدث عنها في ما أسماه محرر سيرته الذاتية “اعترافات سرية” ـ كتاب دبي الثقافية ـ ترجمة أشرف أبو اليزيد، ليست من طراز اليوتوبيات (المدن الفاضلة) كما تترجم عادة إلى العربية، بل هي مدينة (مثالية) يحيل وصفها إلى المثال الذي يرد في نظرية أفلاطون حول المحاكاة، ودور الفنان الذي يحاكي مثالا، فتزول نسخته بتحقق المثال، ولا تعود بالمجتمع حاجة له، فأخرج الشعراء من مدينته حين تخيل نواميسها وأعرافها وسكانها وطرق عيشها.
مدينة دالي المثالية لها قانون اجتماعي مبني على النشوة التي تتحول إلى رغبة وسرور وقلق كما يقول. مدينة محتشدة بالأشياء السوريالية التي تستحث النشوة في العمارة، وتعج بمثيرات الشهوة، وبقوس نصر من الهستيريا بديلا للرايات والشعارات! حيث بمقدور كل فرد أن ينغمس في حبه للحياة، في صدر كون موحد بالبارانويا النقدية التي تبناها دالي، وخلقت تناقضاته المجسدة في اعترافاته، رغم ضعفها كوثيقة سيرة كون راويها وكائنها السيري هو دالي لكنه ليس ساردها الأخير، فقد تحولت سلطة الوعي بالأفكار إلى مدوّنها أندريه باريود الذي صحب دالي عشرين عاما، وقام بتوليف هذه (الاعترافات) ليعرضها بعنوان “أنا والسوريالية ـ الاعترافات السرية لسلفادور دالي”.
البارانويا التي يكرر دالي اعتقاده بها منهجا في الفن والحياة تفسر تناقضاته أيضا ،لأنها تتيح استحضار صور مختلفة وفق قدرات الشخص التخييلية و إيحاءاتها..هكذا تلاحقه فكرة الموت وسط انغماسه الشهواني في الحياة، و تسميته بديلا لاسم أخيه الميت قبل ولادته بثلاثة أعوام، فكان وجود الأخ إضافيا يرافق حياة دالي وتهيؤاته وأعماله الفنية.
يريد دالي أن يكون للنساء وجود متحفي في مدينته السوريالية. حضور تشريحي يتيح رؤية أجسداهن مجزأة، ولكل منها ملابس مناسبة صممها دالي بنفسه. وهناك الحرية التي هي استغلال طفولي لقدرة الإرادة فيقوم المجتمع بتوجيه نفسه بنمط ثقافي قائم على فكرة المدهش.
البارانويا تفسر أيضا أعمال دالي الفنية، فهو يرى أن الفنان يقوم بتنظيم الفوضى. وفي الألبوم الضخم الذي أصدره منذ عقود ماكس جيرارد لقرابة مائتين وخمسين عملا، تتجسد مقولة دالي بأن لوحاته ليست إلا جزءا من حاصل نظرته إلى خلق العالم، لذا تصطف أعماله بأساليبها الغريبة المتباينة: كلاسيكية أكاديمية وسوريالية يقودها الخيال، أمكنة ومناظر طبيعية، بورتريهات وموضوعات عن صحارى وخيول وساعات وآلات ومفاتيح وأسماك وطيور لها بعدها الرمزي عبر تصوره للعالم. فلوحة “صيد التونة” المجسدة لمقاومة البشر للأمواج والحيتان يفسرها بتسامي التيارات الثورية. ووجوده الرحمي بانتظار استبداله بالأخ الميت يفسر وجوده طفلا داخل سمكة في (أيام الربيع الأولى) وهي ليست نفسها التي رسمها في “الطائر والسمكة” أو تحت ركبته في بورتريت شخصي متأملا السماء تمطر أشياء غريبة.