كلوديا
امرأة ذات أظافر طويلة الى حد ما تداعب بها حروف الطباعة، وحين تعمل لا تكف عن الحديث بل تسترسل في السرد، لتلج في حالة قصصية ممتعة عادة ما تغمرها بالفرح العارم، هي أقرب ما تتحلى بصفات الناس المحيطة بها. “كلوديا” تمتثل وحيدة لولا ابنها جيسن ومجموعة لست قليلة من القطط، التي تتبناها، وتوفر لها ما تحتاجه. بيتها الصغير، يوغل في الغابات الكثيفة والأشجار العملاقة، متخذا زاوية منفردة من خلال البيوت، لكنه لا يبعد كثيرا عن نهر “كولومبيا” الجميل، ناحية مدينة “فانكوفر واشنطن”.
ليست وحدها التي تطل على شريان ذلك النهر الرائع، فتقابلها مدينة بورتلاند من جانب ولاية “أوريجون”، تتقاسما روعة البهجة والجمالية التي يتوق لها الإنسان ويخفق من جراء كونهما ولايتان ماطرتان على مدى شهور عديدة، لا تعرفان الشمس ولا بصيصها الجميل. فالسماء لا تفرج عن أشعتها حتى قبيل فصل الصيف.
“كلوديا” امرأة تدأب على الطباعة ومراجعة البحوث لزوارها من الطلبة العرب والآسيويين، فبيتها قبلة لهم ومزارا، وهي غالبا لا تغادره، وكما تقول يصعب عليها الذهاب الى التسوق او حتى مراجعة الطبيب رغم إنها كثيرة الزكام وتعاني من البرد المزمن، ما يسبب احمرار أنفها المثقل بالنظارة الطبية أمام الشاشة الكمبيوترية. هي لا تغفل مداعبتها لقططها المنتشية بشكل ملفت، فتجعلها تعيش في مملكة للقطط يتوجها حبها وعشقها وحنانها الفريد. تعرف قططها جيدا، وأمزجتها كلا على حدة، وهي على شغب دائم معها ومرحبة على الدوام بالقطط الزائرة واللاجئة.
هي نفسها العاشقة المرهفة التي تصد ذات يوم ابنها البالغ السادسة عشرة، بائع الصحف، حين عاد من عمله مرهقا وجائعا ولم يبدر منه سوى أن ذهب الى الثلاجة وتناول شطيرة الخبز المحشوة باللحم، وحين رأته “كلوديا” جن جنونها، هاجت وماجت، ونزعت من قلبها الأمومة والعطف وبدأت تلاحقه بغضب وكأنها تريد ان توسعه ضربا لولا فراره من المنزل على دراجته.
لم تنس بأنه التهم نصف عشاءها، وإبقاها حائرة تعلل أمام الجمع القليل بأنها لم تطالبه بدفع الإيجار، وحان الوقت لكي يتحمل الفتى مأكله ومشربه وملبسه، وقالت: على “جيسن” إن يتعامل بود وحنان مع القطط، إنها حيوانات أليفة لا تأكل إلا ما يوضع لها في وعائها المتواضع، وهي ذكية الى حد كبير، وعلى “جيسن” ان يعي كل هذا وعليه ان يبحث عن عمل إضافي اذا ما اراد حياة افضل.
كانت “كلوديا” تتحدث بتدفق حازم أمام الطلبة المغتربين، والذين يأتون بأفكارهم وكتاباتهم غير المكتملة، ويخرجون من باب بيتها الخشبي الضيق بأعمال مكتملة لا تحتاج إلا لبعض اللمسات، بينما “جيسن” كعادته يتوغل بين الطرقات والبيوت من أجل لقمة العيش فلا يعود للمنزل إلا منهكا ومتعبا حاملا فكرة استقاها من اصدقائه مفادها العمل بالجيش الأمريكي لكنه ظل يمارس بيع الصحف ويتلمس طريقه الى المنزل.