كن كيف شئت
نتابع قراءة موشحة ابن بقي الطليطلي، حيث يقول في مقطعها الثالث:
يروق منه بصحن الخد
خال يخال بنقط الند
والمسك فوق احمرار الورد
يفترّ عن مبسم كالعقد
فللأقاحي لماه القطر
هو الشفاء إن ألم بي ضرر
يتغزل الشاعر في محاسن محبوبه الحسية، فيقف عند الخال الذي يتراءى منقوطا في صحن الخد، معطر النبات الند، يفوح منه المسك فوق احمرار الورد، لكنه إذا ابتسم بدت أسنانه منتظمة كالعقد، ناصعة البياض مثل الأقحوان، أما ما يبدو في شفتيه من ندى مقطر فهو الشفاء للعاشق إذا ألم به ضرر. ولعل هذه الأوصاف المباشرة التي تصدق على الرجال والنساء معا أن تعود بالقارئ إلى بكارة الحياة الفطرية ونضرة الشهوة الماثلة في محيا المحبوب، فهي أقرب لشعر العامة الصريح المبتهج بلذة الحياة في تمثلاتها المحسوسة من ناحية، كما تعبر عن مواجد الإناث المغنيات لهذه الألحان من ناحية أخرى.
مازال سحر العيون العين
يزري بأهل التقى والدين
فويل للعاشق المسكين
من أهيف ساحر الجنون
للريم منه الطلا والحور
والانثناء للقضيب والزهور
يستمر الشاعر في مباشرته الطريفة، متغنيا بسحر العيون الواسعة السوداء الذي تتضاءل بجانبه تقوى أهل الورع والدين، فكل المجتمعات، خاصة القديمة، كانت تتشكل من هذين الطرفين المتباعدين، أحدهما يغلب طاقته الحيوية، والآخر يتكئ على مجرداته الروحية، والشاعر لا يتردد لحظة في مناصرة أهل الهوى والغزل والفن، على ما يصيبهم في العشق من عذابات ومواجع، فمحبوبه الساحر الأهيف قد أخذت عنه الغزلان طلاوة الشكل وحورالعينين، وحاكت الغصون لدونته ورشاقته اليافعة المزهرة.
لما تطلع للأبصار
كالبدر في تلك الأزرار
قد ملك الحسن في مضمار
شدوت والقلب في أوار
كن كيف شئت فأنت القمر
لك اللواء في الملاح يا عمر
وسواء كان عمر هذا اسم المحبوب أو الممدوح، فكلاهما جدير بأن يغني له الشاعر الوشاح، فإن لازمة هذه الخرجة التي تمنحها الطرافة والحيوية تعتبر كلمة السر في خاتمتها وهي “شدوت” ومثلها غنيت أو أنشدت أو قلت، وتأتي عادة عقبها جملة شعرية يرى كثير من الباحثين أن لها أهمية قصوى؛ إذ تعود في الغالب إما إلى أغنية شائعة، أو عبارة يراد لها أن تصبح مركز اللحن في الموشحة المغناة، وهي هنا هتاف يصدح للمحبوب “كن كيف شئت فأنت القمر” وهو لا يزال صالحا حتى اليوم لأن يكون بأشكال عديدة مركزا لحنيا للتغني بزعيم الملاح، سواء كان رجلا في عيون النساء، أو امرأة يفتن بها العاشقون.