كلما سمعت بجهة استعانت بما يسمى “بيت خبرة عالمي”، أدرك أنها على أبواب حالة هدر مالي وإرباك إداري، لن تخرج منه إلا باستدعاء “بيت خبرة عالمي” آخر، لتتواصل دوامة تتخذ مظاهر وأشكالاً عدة.
تابعت مؤخراً استعانة إحدى الجهات المحلية الحيوية بشركة من شركات “بيوت الخبرة العالمية”، من أجل تنظيم القطاع الحيوي الذي تتعامل فيه، بعد أن ارتبك الأداء وضعف المردود. وبعد أشهر من الدراسات والصولات والجولات الميدانية والمكتبية أوصى بيت الخبرة الجديد بأن تعود الأمور إلى ما كانت عليه، قبل الأخذ بنصحية الشركة التي سبقت، وجرى معها تفكيك ذلك المرفق، وتسريح العاملين فيه ودمج المواطنين منهم في هيئات أخرى. وطبعاً الشركة الأولى قبضت “النصيب”، وتسهل خبراؤها إلى بلدانهم. وبقي المتعاملون مع القطاع يعانون آثار تلك “النصيحة” قبل أن تمر سنوات، ويكتشف القائمون الجدد عليه أن الأمر بحاجة إلى معالجة، وإلى نصيحة “بيت خبرة” جديد. وبالطبع النصيحة الجديدة ستكون مرتفعة التكاليف بعد مراعاة أسعار الصرف ونسبة التضخم، وغيرها من الأمور التي يضعها “الخبراء” المستوردون في اعتبارهم، قبل أن ينطق الواحد منهم بكلمة أو توصية. ويتوقف المرء كثيراً أمام هذه الامتيازات التي تطلبها هذه النوعية من الخبراء، وهم القادمون من بيئات تعصف بها البطالة، وتعج بالمؤسسات والشركات والمصارف المفلسة، ومع هذا نصر على استيرادهم.
وذات مرة تابعت كيف عصفت “استشارات” ثلاث دفعات من بيوت الخبرة العالمية بمؤسسة وطنية ناجحة، واقتربت بها إلى حافة الإفلاس، على الرغم من أنها كانت ناجحة، وتدر أرباحاً، ولديها ودائع في البنوك. ومقابلها كانت هناك مؤسسة وطنية أخرى لم تستعن بأي “خبير عالمي” قد حققت من النجاح ما حققت، ولم تعان معاناة الأولى، وقياداتها من خريجي جامعة الإمارات. وعندما سألت أحدهم عن معادلة نجاحها، أجاب بالمثل الشعبي المعروف “على قد لحافك مد ريولك”!.
وهو مثل يختصر أهمية التحكم في الإنفاق وموازنته بالإيرادات، فهل يحتاج الأمر إلى استيراد المزيد من الخبراء؟!. والذين ربما كانت ظروف المراحل الأولى من تأسيس الدولة تتطلب وجودهم، بصورة تختلف كلياً عن واقع “بيوت الخبرة العالمية” الآن، والذي أصبح تجارة قائمة بحد ذاتها، توزع الاستشارات الجاهزة لمن يطلبها. وما أكثر الذين يطلبونها للخروج من مآزق سابقة وضعتهم فيها “بيوت خبرة” و”عالمية” أيضاً. كما في النموذج الذي ذكرت.
واليوم وبعدما تحقق للإمارات هذه المكانة الرفيعة في ميادين ومجالات شتى، وسجلت أنموذجاً في التنمية الشاملة يحتذى به، وتعلن دول عربية وأجنبية عن رغبتها في الاستفادة منه، مازالت هناك دوائر تواصل الاستعانة بمن تعتبرهم “خبراء” ليعيدوا تنظيم عملها بصورة أشبه بطريقة “فسر الماء بعد جهد بالماء”، وحتى الآن “زامر الحي لا يطربها”، على الرغم من اشتداد عوده وتراكم خبراته، وكان الله في عونه، في غياب أي دور لدواوين المحاسبة والرقابة المالية لتقنين مسلسل ما يسمي “بيوت الخبرة العالمية” إياها!!.
ali.alamodi@admedia.ae